من أين هذا الولع بهذه الساحرة؟. كم مرة أمر بساحة أو حديقة، فتبهجني مشاهدة صبي يجري متعثرا وراء الكرة، و كم مرة و أنا أمر من حارتي أو حارات أخرى أو أنا خارج من بيتي أو داخل إليه، أجد أطفال مدينتي أو جيراني يصرخون فرحا بلعب كرة القدم أو بقذف ضربات الجزاء مناوبة متخدين باب مرآب مرمى أو راسمينه بحجرتين. القليل منا من لم تفتنه كرة القدم، لكن القليل منا هم من يبرعون في ترويضها و التحكم في انسيابها و الإبداع في ملامستها، و القليل من كل هؤلاء من ترتقي بهم الكرة إلى مدارك الاحتراف، و القلة القليلة هي التي تنجح في المضمار…
كرة القدم هي الرياضة الأكثر شعبية لعبا و مشاهدة، إذ لا تحتاج إلى معدات كثيرة و إعداد قبلي للعبها، إنها فقط تحتاج إلى مساحة فارغة و كرة، كم كنت أسعد في أيام العطل عندما تهدي لي أسرتي كرة كبيرة أو صغيرة من المطاط(البلاستيك) و أتواعد مع أصدقائي في الحي أو زملائي في المدرسة لقضاء صباح أو مساء أو يوم كله في لعب مقابلات و الجري وراء الكرة و تسجيل الأهداف و تمرير الكرة بين الأرجل.
القليل منا من كان محظوظا أي يملك كرة حقيقية من الجلد، و حذاء رياضيا بمواصفات حقيقية، كان أغلبنا يلبس حذاء شعبيا رخيصا يسمى “بوتاج”، و إن كنا أدركنا من بعد أن ليس الحذاء هو الذي يصنع اللاعب الماهر بل الأرجل الماهرة هي التي تصنع اللعب، لعبنا في كل الساحات الفارغة التي حولناها بخيالنا إلى ملاعب، و ارتقى القليل منا للعب مع فرق الأحياء الهاوية أو مع فريق المدينة، كان كل واحد منا يتصور نفسه شبيها لنجم مغربي أو عالمي، كان منا الظلمي، و بكنباور، وكروف، و أيالا، و فرس، والبياز…كنا نحلم كما يحلم كل البشر، ثم انسحب أغلبنا، مع التقدم في العمر، لينضم إلى حلقة المتفرجين في الملاعب أو المغرمين بمتابعة أخبار اللعبة و بطولاتها ولاعبيها ومشاهدة مقابلاتها عبر الشاشة، كما اتخذ أغلبنا معسكرا ينتصر له خاصة في البطولات الكبرى، فمنا الودادي و منا الرجاوي و منا الفتحاوي…، منا المدريدي ومنا البرساوي و منا التلاتيكي… ومنا البرازيلي و منا الهولندي و منا الألماني…، و ما زلنا على هذه الحال، بل كبر حجم اهتمام البعض و ضعف اهتمام الآخر أو أنطفأ…
كرة القدم لم تعد فقط لعبة الفقراء، بل استثمر فيها الأغنياء، إذ غدت تجارة رائجة تدر الملايين أو الملايير على أصحابها وشركاتها و لاعببيها و مديري الأعمال…، و سجلت الكثير من فرقها في دوائر البورصة، و تحول نجومها إلى رموز للموضة والثراء، وسفراء لكثير من المؤسسات الدولية في القضايا الإنسانية، و استغل بعضهم في السياسة و معاركها المتقلبة وفي الإشهار والدعاية…
لكن تبقى لعبة كرة القدم هي اللعبة التي توفر إلى حد كبير تكافؤ الفرص بين الشعوب و الطبقات و الأفراد، إذ أن أغلب نجومهها و مردتها ينتمون إلى الدول غير العظمى و إلى الطبقات الشعبية، و قد نذهب إلى القول إن فن كرة القدم الذي يمتع و يخلق الفرجة مصدره العالم غير الأول و أغلب مستثمريه وصاقلي مواهبه في العالم الأول.
في عائلتي لا أعثر على من هو مغرم حقيقة بكرة السلة أو الطائرة أو اليد…، لكن أعرف الكثير من المغرمين حد النخاع بكرة القدم من كل الأجيال، حتى أخي الراحل الدكتور محمد مفتاح رحمه الله، كان مغرما بالريال مدريد؛ لقد عرفت ذلك مـتأخرا ودون اتفاق وجدت نفسي أتقاسم هذا العشق مع بعض الخلف والسلف، في حين يميل أغلب الجيل الجديد إلى البارسا الذي أعطاها نجمها الأرجنتيني السابق الذي رحل إلى باريس سان جرمان امتدادا منقطع النظير في العالم.
في دوري أبطال أوروبا الذي فاز به الريال مدريد في 28 من ماي الماضي بعد أن هزم فريق ليفربول الإنجليزي بهدف يتيم؛ لا يغيب عن أي متتبع أن معظم نجوم هذين الفريقين ينحدرون من طبقات شعبية و ينتمون لدول غير عظمى كدينسيوس و بنزيما و محمد صلاح و ماني و دياز…
كرة القدم رياضة تشغل الملايين و تحرك اقتصادات أحياء و مدن وجهات و تجلب استثمارات لدول عند تنظيم التظاهرات الكبرى ككأس العالم و باقي البطولات القارية، كرة القدم كذلك تدغدغ أحلام آلاف الشباب من أجل النجومية و الخروج من الفقر و الولوج إلى بحبوحة الثراء…لكن هيهات فالطريق صعب و شاق وشائك، و هناك من يسعفه الحظ وهناك من حظه عاثر فيها…؟؟؟
و أنا أكتب ما أكتبه الآن أسمع في الخارج هتافات الفرح بتسجيل الهدف الثاني، ثم الفرح العارم بفوز فريق الوداد الرياضي البيضاوي بكأس أبطال إفريقيا، فهنيئا للوداد وهنيئا لكرة القدم المغربية بهذا التتويج، و مزيدا من العناية بالمواهب الكروية في كل المستويات و بالنوادي الرياضية بكل الجهات من طرف القطاع الخاص أولا و العام ثانيا حتى تكون رياضة كرة القدم قاطرة حقيقية للتنمية السوسيو-اقتصادية و للاستثمار في الموارد البشرية و في ما ينفع الإنسان المغربي والوطن.
كرة القدم هي كذلك مجال للتناقضات فبقدر ما تحقق الفرجة و التنمية و الصعود الاجتماعي والتسامح و التعدد والتنوع والسلم…، فهي كذلك قد تجلب توترات و تؤجج الشوفينية و العنف والتمييز والعنصرية…
الإقبال على كرة القدم يزداد، ممارسة و مشاهدة و إعلاما… ويأخذ بوضوح منحى العولمة، لذلك يفرض تغيير رؤيتنا لهذا الرياضة و من ثم تجديد آليات العمل و التدبير، و إحداث أقطاب والاستثمار في هذه الرياضة بكل جهة لاستقطاب اللاعبين المهرة من كل المجالات الحضرية والقروية و صقل قدراتهم لإبراز مواهبهم للعالم كله، وجعل هذه الرياضة ليست مجالا استهلاكيا فقط و إنما مجالا للإبداع و خدمة القضايا الإنسانية…
عبد الحي مفتاح