“جلدة محشوة بالهواء يجري وراءها لاعبون”، تلك هي كرة القدم، اللعبة الأكثر شعبية والأكثر متابعة جماهيريا، كما وصفها حكيم بسيط. و هكذا تصل أرقام متابعي مقابلات كأس العالم إلى الملايير كما الاستثمارات في نواديها، و في لاعبيها، و في إعلامها و بنياتها التحتية خاصة الملاعب…
يعتبر الكثير من الناس هذه المكانة الهائلة التي تحتلها لعبة كرة القدم غير مستحقة، بل إنها تجسد مظهرا من مظاهر العبث الذي يجري في عروق هذا العالم، إذ، في نظرهم، ماذا يمكن أن تمثله لعبة مقارنة مع مظاهر اجتماعية جدية و قاسية كالفقر و الجوع و الأمية؛ و التي بالكاد تسلط عليها الأضواء حيث لا تقام لها المنتديات و التظاهرات العالمية لجذب الموارد الكافية و الاستثمارات المناسبة من أجل الحد أو التقليص من المآسي الإنسانية التي تخلفها؟ !.
ليس لدي علم بالرقم الحقيقي لمعاملات قطاع “الترفيه” في العالم، لكنني أحدس أنه رقم خيالي، فالعالم بقدر ما يستثمر فيما هو جدي يستثمر كذلك فيما هو غير ذلك أو فيما هو مناقض له، و الحياة-وبالتالي اقتصاد العالم- تتشكل جناحاها من هذا الثنائية الذي لا مهرب منها، فحينما نغرق في الجد نحتاج إلى الترفيه، و حينما نشبع من الترفيه نهرع إلى الجد…
كأس العالم في قطر رغم أنه ينظم في نهاية الخريف، فإن الجدال ساخن حوله، فلم تبق اللعبة لعبة بل خرجت الكرة من ملعبها ليتدحرج التجاذب بسببها إلى ما هو ثقافي و أيديولوجي و ديني و حقوقي، تجاذب بين الغرب والشرق، بين حضارة تريد تقدما بدون كوابح و حضارة تروم أصالة مفتوحة على التقدم.
الجدال يثوي وراءه ما يثوي من رهانات و مصالح و تدافعات، و ما لا يمكن تجاهله، و رحلة المتعة انطلقت الآن لتستمر، تقريبا، شهرا كاملا، هو أن الشرق ليس كله خير و فيه الكثير مما يتطلب الإصلاح، وأن الغرب ليس كله شر و فيه الكثير مما يتطلب إعادة النظر، ولا يمكن بمبرر التقدم إباحة كل شيء و لا يمكن بمبرر الأصالة و التجذر منع كل شيء، المهم أن تتحقق مع التقدم والتجذر إنسانية الإنسان.
كانت نيتي قبل أن أخوض في الكتابة أن أتحدث عن جذور عشقي لكرة القدم الذي أتقاسمه مع الملايير مثلي في العالم؛ لا أتذكر كثيرا أسماء اللاعبين، و لا أجري باستمرار وراء أخبار النجوم و سوقهم أو “الميركاتو”…، لكن مشاهدة مباريات كرة القدم تشكل جزءا أساسيا من برنامجي الأسبوعي، خاصة أيام السبت والأحد، و أحيانا الثلاثاء و الأربعاء. عشقي لم يتبدل كثيرا منذ أن ملكتني مشاهدة مباريات كرة القدم و أنا يافع بعد أن ملكتني مداعبة الكرة وأنا طفل: في المنتخبات أميل إلى البرازيل وأناقة لعبها و سحره، و أتحمس لبلدي طبعا، ثم للمنتخبات العربية و الإفريقية، و في الفرق أميل إلى الريال(الحمام) ثم ليفربول و قبلهما إلى الرجاء(الفريق الأخضر) منذ أيام الظلمي رحمه الله، و حيثما كان اللاعبون البرازيليون يكون ميلي في الفرق الأخرى، و أحيانا يغلب على هواي في الفرق ما يصلني عن النزعة الإنسانية التي يتحلى بها بعض لاعبيها أو تضامنهم و دفاعهم عن القضايا العادلة، ولم يرقني مؤخرا، و أنا أحترم الاختلاف، انحياز نيمار لبولسونارو لا أعرف الأسباب الحقيقية لهذا الانحياز المفاجئ..
أتذكر أنني حزنت كثيرا إثر مباريات، و فرحت كثيرا إثر أخرى، و خاب أملي في مباريات كنت أعتقد أن الفرجة فيها ستكون روعة، و أخطأ توقعي في مقابلات كنت أعتقد أنها ستكون خالية من الفرجة، و أكثر ما يدهش في كرة القدم أنها كثيرا ما تذهب عكس الاحتمالات والافتراضات…
انطلقت بطولة كأس العالم يوم الأحد من ملعب البيت، و ستتوالى المباريات و معها المفاجآت، اليوم الثاني بان الفراغ الذي تركه غياب الهداف ساديو ماني في منتخب السنيغال، وربما سيكون لغياب كريم بنزيمة أثره على منتخب “ليبلو/الزرق”، و سيكون كذلك لغياب منتخب مثل إيطاليا أثره في فقدان هذا الكأس لطعم الدهاء الكروي، و من مفارقات هذا الكأس أنهم هناك يشغلون المكيفات للاحتماء من الأجواء الحارة و أننا هنا نتفرج عليهم و نحن نمني أنفسنا بتشغيل المكيفات للاحتماء من الأجواء الباردة، و هناك ينتجون المحروقات و يغتنمون حرارة أسعارها، و هنا نستهلك المحروقات ونكتوي بنار أسعارها.
المهم في الأخير هو أن تكون متعة كأس العالم لكرة القدم حافزا لنا للرقي بأنفسنا و بالعالم إلى ما يجعلنا نستحق إنسانيتنا ويهزم قوى الشر فينا، ويقوي التضامن الحقيقي بيننا -نحن الشعوب العربية-…
عبدالحي مفتاح