تقاييده وطرره
لم يتفرَّغ مترجَمنا للتَّأليف على سَنَنِ الجمّاء الغفيرِ من علماء المغرب، وقد دار نشاطه على التَّدريس والفتوى، وكان الاهتبال بهما داعياً إلى تحرير بعض التَّقاييد، وتحشية الكتب التي قام على إقرائها. والحقُّ أن حواشيَهُ المطوّلةَ تعكسُ صورةً جليّةً لتفنّنه في المعارف، ونَفَسِهِ النقديِّ في الاستدراكِ والتَّصحيح. ومن عادته أنه لا يدع كتاباً مقروءاً إلا وكتب طرراً عليه، تتفاوت بين الطّول والتوسّط والقصر، وأكثرها محفوظٌ بالخزانة الداودية بتطوان، وقد وقفت عليها، وانتقيت نماذجَ منها على سبيل التَّمثيل فقط. ولا أعلم من حواشيه المطبوعةَ إلا طرره على ( التّحفة )، وكان طبعها بعناية الأستاذ الحسن بن عبد الوهاب رحمه الله.
أما تقاييده فالدَّاعي إليها استفتاؤه في كثير من نوازل قطره، أو خوضه في رد علمي، والمحفوظُ منها أربعة :
1 . تقييد في مسألة تعارض بيّنتين في حوز الهبة
يُعدّ هذا التقييد جواباً عن نازلة من نوازل الهبة استفتي فيها مترجَمنا، وهي أن رجلاً وهب لواحد من أبنائه أصلاً من أصوله، ولاثنين منهم أصلاً آخر، وحيز الأصلان على الوجه الأكمل بشهادة عدلين مبرزين، فلما توفي الواهب قام الباقون من ورثته مدعين أن موروثهم لم يزل معمراً للأصلين المذكورين، ولم يرفع تصرفه واعتماره إلى أن توفي، وأقاموا شهادة لفيف على دعواهم[1] . فمدار النازلة، إذن، على تعارض بينتين: بينه شهادة العدلين، وبينة شهادة اللفيف، وقد اشتهرت في تطوان ( بقضية أولاد مدينة )، وكتب فيها الرهوني تقييده الموسوم بعنوان: ( الجواهر الثمينة في تحرير مسألة أولاد مدينة).
والتَّقييدُ _ على وجازته _ نموذجٌ حيٌّ للنقد الفقهيِّ في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين؛ إذ أداره السلاويّ على نقدِ كلام التسوليّ في توهين اختيار الرهونيِّ بتقديم بيّنة حوز الهبة على بيِّنة نفيها، وهو نقدٌ مؤَسَّسٌ على مبحثين رئيسين:
_الأول: بيان متَّكأ الرهوني في اختياره، وهو قول حذاق المذاهب في إعمال الشهادة بصحة الحوز عند تكافؤ البينتين؛ لأن من أثبت شيئاً أولى ممن نفاه.
_ الثاني: بيان متعلَّق التسوليِّ في توهين اختيار الرهوني، ومداره على أجوبة ثلاثة: جواب للمتيطي أزيل عن وجهه وسياقه، وجواب للقرافي، وفيه هفوة لا يتابع عليها صاحب ( الفروق )، وجواب لعبد القادر الفاسي، وفيه مقصدان: أولهما : مقصد النفي والإثبات، وقد وقع فيه خلط واضطراب، والثاني: مقصد النظر في استصحاب الشيء المحوز وعدم بطلانه إلا بناقل صحيح، وهذه النقود كلها خرجت من كنانة السلاويِّ، مع حدةٍ وإقذاعٍ في العبارة.
والجدير بالإلماع أن تقييدَ السلاويِّ صُحِّح وقُرّظ من أكابر شيوخ فاس، كالكامل الأمراني، والتهامي بن المدني كنون، وعبد السلام العلوي، وإبراهيم العلوي، وأبي بكر بناني، وحميد بناني، وأبي العباس البوعزاوي، وأحمد بن سودة، وعبد الله بن خضراء، وخليل الخالدي، وأحمد بن الخياط الزكاري [2]، وهذا نص تقريظ شيخ الجماعة الزكاري:
” الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، وبعد: فما قرَّره وحرَّره الفقيه العلامة، الدراكة الفهامة، المشارك المدرس النفاعة، ملحق الأحفاد بالأجداد، السالك سبيل النفع والإرشاد، الذي إلى تحقيقه الحيران ياوي، أبو العباس سيدي أحمد بن محمد السلاوي، في هذا الجواب الحفيل، ووافق عليه أولئك الأجلة الأعلام، من تقديم بينة الحيازة على مقابلتها، تبعاً للعلامة الرهوني، عليه التعويل، والله الموفق الهادي إلى سواء السبيل، وعلى ذلك يوافق عبيد ربه، وأسير كسبه أحمد بن محمد ابن الخياط، كان الله له وللمسلمين، آمين ) [3].
2 . تقييد في رؤية الهلال
هذا التقييد من فرائد الرهوني في ترجمته لشيخه السلاويِّ، والحادي إليه أن بعض المتأخرين من أهل سوس ألف تأليفاً في حكم نقل رؤية الهلال من محل لآخر، وما يتعلق بذلك من مهمات المسائل، فتجرد السلاويُّ لنقد ما ورد فيه من كون المشرقي يسبق المغربي برؤية الهلال، حتى بُني على ذلك أن رؤية المغربي توجب الصوم على المشرقي دون العكس .. وكان مما ذًيِّل به هذا النقد: ( منشأ هذا العكس الذي وقع لهؤلاء السادة في هذا التقييد، كونهم رأوا أن أوقات المشرقي كلها سابقة على أوقات المغربي، فظنوا أن رؤية الهلال حكمها حكم جميع الأوقات، وأن المشرقيَّ أولى بالسبق فيها. وكون أوقات المشرقي سابقة على أوقات المغربي، أمرٌ صحيحٌ مسلَّمٌ؛ لكون الأوقات منوطة بالحركة الأولى، أعني حركة الفلك الأعظم، المسمَّى بفلك معدّل النهار، وهي من المشرق إلى المغرب، وأما رؤية الهلال؛ فإنها تابعة لحركتها الأصلية، وهي من المشرق إلى المغرب.
لا يُقال: هذا المنزع الذي أطلت فيه النفس، هو المحترَز عنه بقول الفقهاء: ” لا بمنجّم “؛ لأنا نقول: ليس هو منه؛ وإنما هو تحقيقٌ لمناط الحكم الشرعيِّ، وتحريرٌ لمحلِّ تنزيل نص الشارع ) [4] .
والملحوظ أن السلاويَّ كان ذا اطلاع دقيق على علم الفلك، وبه استعصم في رده على صاحب التوليف، ولا أعلم من علماء تطوان مَن جاراه في هذا الاطلاع، مع اتساع مشاركته في فنون الفقه والعربية، وينبي عن هذا الشّفوفِ قولُ الرهوني عقبَ إيرادِ التَّقييد: ( عرضته على عدد من الإخوان فلم أجد من يتنازل لفهمه، فضلاً عن أن يجيب عنه بجواب مقنع، والفضل بيد الله، يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم ) [5].
3 . تقييد في وقت الإمساك وتعجيل الفطر
أورد الرهونيُّ هذا التقييد في ترجمة شيخه السلاويِّ ( إيقافاً للناظر على ما آتاه الله تعالى من حسن الملكة والتحقيق والتحرير) [6] ، وفيه فوائدُ فقهيَّةٌ وفلكيَّةٌ عن وقت الإمساك والغروب، وتنبيهٌ على ما ينبغي أن يؤخذ به من الاحتياط للصوم، فيُمسَك عن الأكل والشرب والجماع إذا بقي للفجر مقدار خمس وعشرين دقيقة للفجر الشرعي؛ لأن حاسة البصر عاجرةٌ عن تمييز الفصل المشترك بين السواد والبياض. والتقييدُ معزّزٌ بنقلٍ نفيسٍ عن العالم الفلكيِّ أبي زيد عبد الرحمن التاجوريِّ.
4 . تقييد في قول البوصيري ” ومسير الصبا بنصرك شهرا “
جرى سجالٌ في مجلس الشيخ سيدي عبد السلام ابن ريسون عن معنى قول البوصيري ( ومسير الصبا بنصرك شهرا )، وتجاذب الرأي فيه علمان: مترجمنا السلاويُّ ومولاي عبد الهادي الصقلي، وقد عني الثاني بتدوين هذا السجال واستجلاء سياقه في تقييدٍ خاصٍ وقفتُ على نسخةٍ منه ضمن مجموع قرطبيٍّ نفيسٍ، وهذه طالعته:
( الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين.
هذا وقد اجتمع عبد ربه، وأسير ذنبه، عبد الهادي بن أحمد الحسيني الصقلي في زيارته للقطب الكبير، والغوث الشهير، مولاي عبد السلام بن مشيش _ رضي الله عنه وأرضاه _ ونفعنا به بجاه سيدنا محمد بن عبد الله سنة اثنين وتسعين ومائتين وألف بالولي الصالح، ذي النور اللائح، سلالة الأشراف الطيبين، ونخبة أولياء الله العارفين، الدر المكنون سيدي عبد السلام ابن ريسون، عشية يوم الجمعة، التاسع من شهر شعبان، وحضرنا معه على قراءة متن الهمزية بالألحان. ولما ختمت، وقعت مذاكرة من الشيخ _ رضي الله عنه _ في معنى قول الإمام شرف الدين البوصيري _ رضي الله عنه ونفعنا به _ ” ومسير الصبا بنصرك شهرا ” .. البيت. وكان من جملة من حضر الفقيه السيد أحمد السلاوي التطواني، فتكلم بكلام فيه تعنيف، ولما قصده الناظم فيه تضعيف، فتجاوزنا معه في ذلك بقصد رده عما سلكه من أضيق المسالك، فأبى إلا ما عليه صمّم، ومن الغد أتى بتقييد على نحو ما قدّم، ولما نظر إليه الشيخ وأملي عليه ظهر منه عدم الرضى به؛ بل كره الإصغاء إليه، فأمرني رضي الله عنه _ مع إذنه لغيري _ بالكتابة، منتصراً للناظم، وسالكاَ سبل الاستقامة، فقيدت من بركته ما أمكنت تقييده في الحال، مع ضيق الوقت وشغل البال. ولما أتيته بما رسمته في النازلة، فرح غاية، ودعا لي ولولدي بخير الدنيا والآخرة.
وها أنا أقيد لك ما كتبه السلاويُّ بلفظه، ثم ما قيده العبد الفقير من بعده، وأسأل من جلت قدرته، وتعالت عظمته، أن يخلص أعمالنا لديه، ويحقّق انتماءنا إليه، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير ..) [7] .
ثم أورد الصقليُّ تقييد السلاويِّ وتقييده المحرَّرَ بطلب الشيخ سيدي عبد السلام ابن ريسون، وكان التقييدان محلَّ شدّ وجذب بين العلماء، فانتصر أحمد بن الطالب ابن سودة للصقلي[8]، ومال المرير إلى أن كلا الجوابين راجح من جهة، فمتعلَّق السلاويّ ظاهر النقل، ونسبة النصر إلى الصبا مسيرة شهر لم يرد به نص، كما أن الرعب مسيرة شهر لم يرد وقوعه بالصبا، ومن هنا قضى بخلط الناظم [9]، وفوّق إليه من كنانته ما فوّق من سهامٍ نقديةٍ، أما متعلّق الصقليِّ فطبيعة النسج الشعري التي تقتضي العدول عن الحقيقة إلى المجاز، ولذلك حسَّن المخرج للناظم بأنه لم يقصد حكاية نص الحديثين؛ وإنما اقتبس منهما ما يؤدي به المعنى المتخيَّل، وباب الشعر واسعٌ، وقانونه مسعفٌ بضروبٍ من الاتساع البلاغيِّ.
[1] انظر نص النازلة في المعيار الجديد للوزاني، 8 / 606 _ 607 .
[2] انظر هذه النقاريظ في : النعيم المقيم للمرير، 2 / 61 _ 65 .
[3] نفسه، 2 / 65.
[4] عمدة الراوين للرهوني، 6 / 177 _ 186 .
[5] نفسه، 6 / 183 .
[6] نفسه، 6 / 185 .
[7] ضمن مجموع محفوظ بمكتبة بلدية قرطبة، ( ر 28445 )، ص 35.
[8] النعيم المقيم للمرير، 2 / 72.
[9] نفسه، 2 / 73 _74 . وقد اضطلع البحاثة عبد الله المرابط الترغي _ رحمه الله _ بتحليل موفّق لهذا السجال، واستجلاء مآخذ السلاوي والصقلي فيما استبد به كل منهما من رأي واختيار. انظر دراسته في أعمال ندوة : ( تطوان قبل الحماية )، ص 187 _ 192 .
د. قطب الريسوني