من طرائف كتابات العلامة سيدي التهامي الوزاني:
«سيرة مختصرة للشيخ سيدي محمد الحراق»
2/3
تقديم: الأستادة حسناء محمد داود
لقد وقفت لسيدي التهامي الوزاني على الكثير من كتاباته وأبحاثه ورسائله، فوجدته بحرًا لا ساحل له، وكأن القلم لديه سيل من مداد لا ينتهي، يأخذه بين أنامله فينهمر عطاء مهما كان الموضوع الذي يخوض فيه، وما أعجب ما يجود به هذا القلم عندما يخاطب سيدي التهامي أصدقاءه في رسائل ليست كالرسائل، بل هي سجلات توثيقية يقل وجود مثلها عند أمثاله من الكتاب والمؤرخين …، ويكفينا استدلالا على ذلك ما تشرفت بنشره له من رسالته التي وجهها لصديقه الحميم والدي المرحوم الأستاذ محمد داود، في ” الرسالة الوزانية”([1]) التي تطورت بفعل طولها (ما يفوق 150 صفحة) وتعدد مواضيعها، وكثرة استطرادات كاتبها، إلى سرد تاريخي مفعم بالمعلومات، وإلى صورة شاهدة على عصرها، تنقلنا إلى فترة نحن في أشد الحاجة إلى معرفة خباياها ودقائقها، خاصة وأن ما تم عرضه فيها إنما هو سرد سخي وصورة مفصلة واضحة بقلم أمين كقلم سيدي التهامي الوزاني.
ومما استوقفني مؤخرا وأنا أتصفح بعض كتابات هذه الشخصية المتعددة الأوجه، هذه الرسالة التي كتبها – في 16 صفحة – إلى صديقه الأستاذ الفاضل السيد مَحمد بن عبد الرحمن الزكاري([2]) بتاريخ 3 جمادى الأخيرة 1373 هـ 7 فبراير 1951 م، بعدما طلب منه هذا الأخير أن يزوده بنبذة عن شخصية الشيخ سيدي محمد الحراق رضي الله عنه. فأجابه عن طلبه، وفصل له ما استطاع أن يقف عليه في الموضوع المطلوب، وذلك في الرسالة التي بين أيدينا اليوم، وهي التي نورد نصها فيما يلي:[ القسم الثاني]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولما كان مقام رجل في العلم مثل مقام الفقيه الحراق، وكانت الجوامع في حاجة إلى خطباء علماء، لم يكن بد من إيجاد حل يخوّل الفقيه الحراق أن يتولى شأن الخطابة. وقد وجدنا الفقيه الحراق ينتقل إلى المسجد الجامع بالعيون ليتولى فيه خطبة الجمعة. ولعل أهل حي العيون لم يؤخذ رأيهم في هذه التولية. ولمؤسسي هذا الحي العيوني تكوين خاص، ويغلب على الظن أن أغلبهم في ذلك العهد، كان من الأندلسيين الذين طردهم –فيليبي– الثاني، وكانت لهم من بقية أهل المدنية منافسات ومنابذات، حتى إنهم في وقت ما اتخذوا لهم من نفسهم حاكما منفصلا عن حاكم المدينة. وقد تكون هذه المنافسة بين أندلسيي العيون والأندلسيين المؤسسين لتطاون أو المجددين لبنائها، ترجع إلى أن أندلسيي المنظري كانوا من حواضر الأندلس، وأن أندلسيي العيون كان أغلبهم من بواديها؛ ويشهد لذلك اختلاف صبغة الحياة والتربية بين مدينة المنظري وبين حي العيون الذي شاء مؤسسوه أن يكون بلدة قائمة بنفسها، لا تخضع لما يفرض عليها في العدوة الأخرى.
ولو أن الفقيه الحراق كان يسكن بالعيون، ويملأ جامع هذا الشِعب علما وتدريسا، لوجد في العيونيين مؤازرين ومؤيدين، ولما كانوا عليه حربا يدبرون الحيل لمنعه من صعود منبر حيهم، وهم لا يرضون برجل يسكن حي الجامع الكبير، ويقضي أسبوعا كاملا في عمارة مسجد مولاي سليمان، حتى إذا جاء وقت الخطبة، خرج يتهادى ليخطب، ثم تنقطع بينه وبينهم كل صلة، وهم الذين يرغبون في أن يعترف بحيهم على أنه مدينة قائمة بنفسها، حتى إنهم أسسوا لها مقبرتها وحمامها ومظاهر العمران فيها.
واستمر الفقيه الحراق خطيبا بجامع العيون، وتحير العيونيون الأقدمون في الطريقة التي يسلكونها لتنحية رجل فاسي جبلي شفشاوني، ثم هو لا يسكن حي العيون، تحيروا في تنحيته لأنه في رعاية السلطان والدولة والطبقة المثقفة، وما بقي لهم إلا أن ينظروا سببا يقدح في عدالته ومروءته. وهنا تأتي القصة الشهيرة من أنهم اكتروا باغية وجمّلوها، وأدخلوها المقصورة وقت صلاة الجمعة، فلما جاء الفقيه الحراق على عادته، ليقوم بخطبة الجمعة، ودخل من باب المقصورة، إذا به يجد المرأة متبرجة، وإذا بالصراخ من كل جهة ومكان، فخف لمشاهدة ما بالمقصورة جميع من كان حاضرا صلاة الجمعة، ولشد ما كانت دهشة الناس عندما رأوا، ويا لهول ما رأوا، رأوا الخطيب مختليا بامرأة، وكان كل شيء مبيّتا على أتم وجه، فقد حضر العدول وتلقّوا من 144 أربعة وأربعين رجلا ومائة رجل شهادتهم بأنهم رأوا الفقيه الحراق مختليا بعاهرة، ورغم أن السلطة عرفت أن هذه حيلة باردة ومؤامرة مكشوفة، لكون أكثر الناس مسبقا لا يمكن أن يتحين مثل هذا الزمان والمكان، ولو كان مجنونا، سيما والرجل من أهل حي آخر، لا يزور هذه الجهة إلا ساعة واحدة في الأسبوع، رغم ذلك كله، فإن السلطة التي ليس في وسعها أن ترجع الغوغاء عن غيهم، جارت هذه السخافات، وأمرت الفقيه الحراق بملازمة بيته مدة، ثم فك ثقافه، ولكنه منع من التدريس بالجامع الكبير، ومن الإفتاء. واغتم الفقيه الحراق لهذه النكبة، وأصبح له في الحياة رأي غير رأيه الأول، فبينما كان يطمح ببصره إلى أن يعرف قومه قدره، إذا به يجد المدينة التي ملأها علما وحكمة تلبس له جلد النمر، وتقلب له ظهر المجن، ثم لا تحميه من سخافة جماعة متعصبة لشئون السخف من هذه الاتهامات. ونفوس طماحة كنفس الحراق، لا بد أن تجد لها المجال للعمل، وإذا ضاقت الدنيا، فإن ما عند الله خير وأبقى. على أن تلاميذه ما كان يردعهم عن الانهيال من حوضه أي رادع، وإذا منع من الدرس بالجامع الكبير، فإنه لم يكن ليمنع من الدرس في بقية المساجد.
وكان جماعة من الفقراء يجتمعون للذكر في زاوية سيدي محمد بن الفقيه الازجني منبتا، الوزاني طريقة، وكان في اختلاء الفقيه الحراق في بيته وقت جد كاف للتفكير وتقليب وجوه النظر، في مجاله لا يعيد الفكر في التصوف والصوفية؟، وينبغي أن يكون في معتزله أقبل عليها، فوجد عالما زاخرا بالأفكار الطريفة والنظريات الجريئة، وبحرا خضما من الأسرار والأنوار، وأمام هذا التفاعل النفساني، وهذه البلبلة المحيرة، أصابه المرض، واعتل جسمه، ولبث على ذلك ما شاء الله، والطلبة يعودونه ويرفهون عنه، ولكنه لم يكن يجد فيهم من سيسايره في دراساته ومطالعاته الجديدة، فقرر تكوينهم تكوينا روحيا، كما كوّنهم تكوينا عقليا، فلما أبل من مرضه، أتاه الطلبة على عادتهم، وطلبوا منه أن يوصل ما انقطع من حبل الدرس والتحصيل، لكنه قال لهم: أريد أن نقرأ شيئا من التصوف، فذكروا له الحكم العطائية، فقال: “نِعِمّى هِيَه”، فكان يدرسها بشارع الجنوي، بزاوية سيدي محمد ابن الفقيه، ولبث على ذلك ما شاء الله، فاتفق أن توفي العارف بالله شيخ الطريقة سيدي محمد البوزيدي رضي الله عنه بغمارة، وكان البوزيدي المذكور من أصحاب الشيخ مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه، ولما علم مولاي العربي بوفاة أشرف تلاميذه رحل إلى زيارة قبره، وتعزية أهله فيه، فورد على غمارة، وذكر لأصحابه أن رجلا سيرد عليه من جهة القبلة سيكون له شأن عظيم، وذات يوم أمر الشيخ مولاي العربي بإسراج دابته وتوجيهها إلى حيث يجتمع الفقراء بتطاون، ولم يكلمهم في شأنها، وخرج الأصحاب ببغلة الشيخ من غمارة إلى أن وصلوا إلى زاوية سيدي محمد ابن الفقيه بتطاون، فتركوا الدابة بالباب ودخلوا الزاوية، فوجدوا الفقيه الحراق في درسه للحكم العطائية، وسألهم الفقيه عن الأمر، فذكروا له زيارة مولاي العربي لقبر تلميذه سيدي محمد البوزيدي، وأخبروه بأنه وجه معهم دابة مسرجة لم يقل لهم في أمرها شيئا، فقال الفقيه الحراق: إن الشيخ مولاي العربي رضي الله عنه يريد مني أن أقدم عليه، فها أنا ذاهب لزيارته، وتجهز سيدي محمد الحراق، وخرج صحبة الذين وجههم الشيخ، ولما دخل الفقيه الحراق على مولاي العربي وسلم عليه، أتى بإناء من الصامت الحلو الخاثر، فشرب منه مولاي العربي ما شاء الله، ثم ناوله سيدي محمد الحراق، فشرب حتى رضي، وتأول الشراب بالمعرفة، ولقنه مولاي العربي الأوراد، وقال له في مجلسه ذلك: اذكر وذكّر، وأذن له بالتصدر، ولم يأمره بخرق عادة ولا بلباس مرقعة، فكان سيدي محمد الحراق يقول فيما بعد ذلك: “دخلت من باب الفضل فلا أدل إلا عليه”.
[1] – “الرسالة الوزانية” تقديم وتعليق حسناء محمد داود – منشورات مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة ومؤسسة الشهيد امحمد بن عبود – 2018 – الرباط.
[2] – الفقيه الأديب السيد مَحمد بن ج عبد الرحمن الزكاري: فقيه أديب كاتب ماهر. ولد عام 1318 بطنجة، حيث نشأ وتربى وقرأ القرآن وبعض العلوم. ثم انتقل إلى فاس بقصد الدراسة بها، فقرأ على علماء القرويين، مع الميل إلى الأدب والشعر. ثم عاد إلى طنجة حيث كانت عائلته، فتولى بها بإدارة الأحباس الكبرى، ثم انتقل إلى تطوان وسكن بها نهائيا مع أهله، وبها تولى وظيف الكاتب الأول لوزارة الأحباس، كما قام أيضا بوظيف كاتب بالمجلس الأعلى للتعليم الإسلامي، ثم بوظيف كاتب بالمجلس الأعلى للأحباس بالمنطقة الخليفية. وتوفي رحمه الله بالناظور ودفن في تطوان بتاريخ 25 أكتوبر 1959 م.