هذه القاعة السينمائية الجميلة الواقعة في مكان حيوي بمدينة تطوان، عرفت بإقبال عشاق الفن السابع بكثافة على ما كانت تعرضه من أفلام، وهو مضمار متروك الحديث عنه لفرسانه.
كما كانت مكانا مفضلا لدى كثير من الجمعيات والأحزاب لاحتضان أنشطة فنية، ومهرجانات سياسية في محطات انتخابية وغيرها؛
لكن ما يهمني في هذا المقام هو التطرق إلى إشعاعها الفكري، وذلك انطلاقا مما عشته وعايشته رفقة بعض أقراني من ثانوية القاضي عياض في حضنها من أحداث ثقافية، ظلت راسخة في الذاكرة، وكان لها تأثير قوي في تكويننا المعرفي.
أذكر من ذلك ندوة تأبين الشيخ التهامي الوزاني الذي سبق له تقلد مشيخة المعهد الديني وإدارة المعهد الديني العالي بتطوان، وكان أول عميد لكلية أصول الدين التابعة لجامعة القرويين، وأول رئيس للمجلس العلمي.
وكانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها صورة كبيرة له جنب المنصة، والمرة الأولى التي أسمع فيها اسم كتابه “الزاوية” الذي أهداني بأخرة نسخة منه أخي العزيز الدكتور عبد العزيز السعود بمراجعته وتقديمه، فلما طالعته أدركت مكانة مؤلفه، وقيمة عمله؛ إذ وجدته يسرد فيه ببراعة ودقة وتفصيل فصولا من سيرته الصوفية في الزاوية الحراقية، ويزجي للباحثين مادة وفيرة عن تاريخ مدينة تطوان في مختلف المجالات.
وما زلت أذكر أن من بين الذين شاركوا في ذاك التأبين الشاعر المهدي الدليرو محافظ المكتبة العامة والمحفوظات بتطوان الذي ألقى قصيدة في رثائه، وكذا طالب من قدماء خريجي كلية أصول الدين الذي أسهم بكلمة مؤثرة وهو يشير إلى صورة الشيخ التهامي.
كما أذكر ندوة تأبين عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين التي حضرها عدد من الأساتذة الذين شدوا من قبل الرحال للدراسة في أرض الكنانة، ومنهم أستاذنا في مادة اللغة العربية المرحوم أحمد العمراني. وكان أبرز المشاركين في هذا التأبين الأستاذ المربي امحمد عزيمان الذي قدم عرضا شاملا عن أعمال الفقيد، نشرته لاحقا جريدة العلم في ملحقها الثقافي.
ومن حسنات ذاك العرض المفصل أنه رغبني في اقتناء كتابه “حديث الأربعاء” بأجزائه الثلاثة من مكتبة المرحوم الكورفطي.
وشارك في التأبين ذاته الشاعر محمد الحلوي الذي رثاه بقصيدة اختار لها عنوان “فاجعة الضاد”، وقد سبق لي تضمينها في كتابي الصادر عن مكتبة سلمى الثقافية عام 2009 الموسوم ب “طه حسين في المغرب صفحة في سفر التواصل المصري – المغربي” ومما جاء فيها قوله:
على الضاد أن تبكي وتسرف في البكا
على من قضى في دعم نهضتها العمرا
لقد كان طه في العروبة قمة
يعز تحديها ومبدعها الحرا
وعقدا فريدا زان بالدر جيدها
وجوهرة عصماء وشحت الصدرا…
وما مات طه فهو في مصر خالد
كأهرامها الشماء تحتضن الدهرا…
ومن جميل الصدف أن طه حسين زار تطوان مطلع استقلال المغرب وألقى محاضرة في قاعة مسرح إسبانيول القريبة من ساحة المشور، وكان أحد طلبته في الجامعة المصرية أستاذنا المرحوم محمد بنتاويت التطواني على رأس لجنة استقباله،
كما حضرها، وهو لما يزال يافعا، أستاذي الدكتور حسن الوراكلي طيب الله ثراه، ثم ذكرها ضمن كتابه القيم “وشي وحلي” في مقال عنونه ب “طه حسين منهل دنوت منه ولم أرد.”
وسعدت صبيحة ذات سبت، في ذات المكان، بحضور محاضرة للمفكر المغربي الدكتور المهدي بن عبود في موضوع الإسلام والتيارات المادية.
وفيه حضرت أيضا محاضرة أخرى للعالم العراقي محمد محمود الصواف في موضوع مكانة المرأة في الإسلام.
وفيه استمتعت بالاستماع إلى عروض المشاركين في ندوة الفكر الإسلامي التي نظمتها جمعية الثقافة الإسلامية في بداية تأسيسها، وشارك فيها علماء ومفكرون من المغرب وأقطار عربية، أذكر منهم ممدوح حقي، وعمر بهاء الدين الأميري، ومحمد خير عرقسوسي، والمهدي بن عبود، ومحمد العربي الخطابي، وإدريس الكتاني…
وبعد؛ فقد جاء الحديث عن سينما “أبنيدا” لأبين أن هذه القاعة كانت، بفضل حسن تسييرها، متعددة الاستعمال دون أن يربك ذلك برنامج عروضها السينمائية المسائية والليلية.
وهذا يؤكد أن التوظيف الأمثل والمحكم لكثير من فضاءاتنا، وضمنها حجرات مدارسنا ومدرجات كلياتنا وقاعات معاهدنا، كفيل بتيسير إنجاز الأنبل والأجود من أهداف البرامج والمشاريع الرامية إلى تحقيق تنمية بشرية حقيقية، لا عوج فيها ولا أمتا.
د. محمد محمد العلمي