ـ 1 ـ
يراد بالمديح النبوي؛ كل شعر أو نص أدبي من النثر يتعلق بشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا تتسع دائرة القول عند الأدباء والعلماء، فتدخل في هذه الدائرة التوسلات والتصليات والخطب والرسائل، والمولديات والنعاليات والحجازيات والبديعيات والوتريات والمعشرات والعشريات إلخ.
ففي نفح الطيب للمقري قوله:« الأمداح النبوية بحرلا ساحل له وفيها النثر والنظم، زاده الله شرفا وحباه أفضل الصلاة وأزكى السلام».
وتزخر كتب الأدب والمغازي والسير بترصد كل ما قيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته. فأدب المديح النبوي هو الوعاء الضخم الذي احتوى نماذج هذا الأدب في أوطان الإسلام منذ القديم. وحيث إن موضوعي ينحصر في الحديث عن المديح النبوي في الأدب المغربي، فإنني سأهتم بوضع مقدمة تشرح هذا النوع من الأدب الديني، وتحدد مضامينه وأساليبه، وذلك بمثابة تقديم للحديث عن المديح النبوي عبرعصور تاريخ المغرب، بداية من العصر المرابطي، فالموحدي، ثم المريني، والسعدي، وأخيرا العصر العلوي.
ولا شك أن الدافع إلى خوض غمار المديح النبوي عند أدباء المغرب، وكذا عند الأندلسيين والعرب والمسلمين عامة، كان دافعا دينيا وحبا في ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمجيد صفاته وأخلاقه ومعاملاته. فالقول في هذا يطول لكثرة ما سجل عنه، ولذلك نكتفي بالقول في حفظ هذا المديح للمغاربة فقط.
وتعتبر ليالي المولد واحتفاء الملوك والأمراء بها، حافزا قويا لتباري الأدباء وكبار العلماء. يقول الدكتور سعيد بن الأحرش في كتابه “بردة المديح في المغرب والأندلس”: «… لقد أصبح الاحتفال بالمولد النبوي موسما أدبيا على جانب كبير من الأهمية زيادة على مظهره الديني، ففيه تتبارى مواهب الشعراء في بث المشاعر الدينية، وإظهار مكارم السيرة النبوية، والتحليق في الأجواء الشعرية بقصائد تأخذ حظا وافرا من النسيب والحنين والشكوى والرجاء، ثم التطرق إلى مدح الملوك السلاطين المحتفلين بهذه الذكرى، وبيان مواقفهم في رعاية المقدسات والدفاع عنها. وكان الشعراء يطيلون النفس في هذه القصائد، ويعتبرون ذلك من الإطناب الواجب في معرض المدح والحنين إلى مهبط الوحي، ومنبع الطهر، ويسمون قصائدهم بالمولديات أو العيديات».
انطلقت احتفالات المغاربة بعيد المولد النبوي، بمدينة سبتة على عهد الفقيه أبي العباس العزفي المتوفى عام 649 هـ 1251 م. و كان العزفيون قد حكموا سبتة، فأضحت في عهدهم منارة إشعاع أدبي وعلمي أواخر عهد الموحدين وأوائل عهد المرينيين. وأبو العباس العزفي قاضي سبتة هو الذي ألف كتابا سماه: “الدر المنظم في مولد النبي المعظم” وتوفي فأكمله ولده أبو القاسم. ويذكرون أنه تولى تدريسه بنفسه وكان يجيز فيه. وقد أجاز جمعا من أهل سبتة وأعيانها حين قرأوه عليه بالجامع الأعظم بسبتة عام657هـ 1258 م .
وفي “أزهار الرياض في أخبار عياض” وصف لاحترام السلطان أبي عنان بن السلطان أبي الحسن المريني لهذا الشريف السبتي العزفي. وكان يستدعيه إليه بفاس في مناسبة المولد الشريف، ويكرمه ومن معه من الوافدين، وإليه ينسب الاحتفال بعيد المولد بسبتة، لما رأى من احتفال النصارى بعيد ميلاد المسيح عليه السلام بالأندلس، وأنشد شاعر سبتة مالك بن المرحل قصيدة في هذا المعنى قائلا في بضعة أبيات منها:
فَحُقَّ لَنَا أَنْ نَعْتَنِي بِـــــــــــــــــــــوِلادِهِ | وَنَجْعَلَ ذَلِكَ اليَوْمَ خَيْرَ المَوَاسِـــــــــــــمِ |
وَأَنْ نَصِلَ الأَرْحَامَ فِيهِ تَقَرُّبـًـــــــــــــــا | وَنَغْدُو لَهُ مِنْ مُفْطِرِينَ وَصَائِــــــــــــــمِ |
وَنَتْرُكَ فِيهِ الشُّغْلَ إِلا لِطَاعَــــــــــــــــةٍ | وَمَا لَيْسَ فِيهِ مَلامٌ لِلائِــــــــــــــــــــــــمِ |
وَنَتْبَعَ فِيهِ الصَّالِحِينَ فَإِنَّهُـــــــــــــــــــمْ | هَدَوْنَا بِأَنْوَارِ الوُجُوهِ الوَسَائِــــــــــــــــمِ |
و جاء في كتاب ” أزهار الرياض” :« وكان السلطان أبو حمو موسى بن يوسف يحتفل بليلة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية الاحتفال، كما كان ملوك المغرب والأندلس في ذلك العصر وما قبله يعتنون بذلك ولا يقع منهم فيه إغفال».
فعبارة (في ذلك العصر وما قبله) تؤكد على قيام الموحدين في عصرهم الثاني بالاحتفال بالمولد النبوي. أما في عصور التاريخ المغربي بصفة عامة، فكان للعلماء اعتناء كبير بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتسابهم ما ألفوه قربى له ومحبة. فنذكر من أمثلة ذلك كتاب “الشفا في التعريف بحقوق المصطفى” للقاضي عياض زمن المرابطين، و” الدر المنظم” للعزفي وقد سبقت الإشارة إليه، و” التنوير في مولد السراج المنير” لأبي الخطاب بن دحية، وهما من العصر الموحدي، و” الوسيلة الكبرى المرجو نفعها في الدنيا والأخرى” لمالك بن المرحل شاعر سبتة، و” نظم السيرة النبوية ” لعلي بن عبد الواحد وأحمد بن أبي سالم المريني الشاعر، ومقصورة المكودي، وكلها في عصر بني مرين.
وقد عدد الدكتورعبد السلام شقور، كثيرا من المولديات لشعراء من العصر المريني مثل: مولدية أبي العباس أحمد بن المنان، وأحمد بن القراق، وإبراهيم التازي، وغيرهم .
ويحدثنا التاريخ أن الأدب المغربي الخاص بالمديح النبوي في عصر السعديين، كانت له دولة ونفوذ خصوصا في بلاط السلطان أحمد المنصور الذهبي، وهو بدوره كان شاعرا وعالما وسياسيا كبيرا. وقد وصف مجلسه في ليلة المولد النبوي الشريف، شاعر البلاط، وأديب الدولة الوزير أبو فراس عبد العزيز بن محمد الفشتالي الذي قال في حقه أحمد المنصور الذهبي:« إنا لنباهي به ابن الخطيب »، فأعطى صورة لما كان يجري في بلاط المنصور ليلة المولد النبوي من حيث تزيين المكان، وإظهارعظمة الدولة، واحتفاء المنصوربالعلماء والشعراء، وباقي شخصيات الدولة، وعامة الشعب، وتقديم أنواع الطعام الفاخرة، والهدايا والهبات المالية.
فلنستمع إليه وهو يصف إهلال ربيع الأول واليوم الثاني عشر منه، فيقول:«… والرسم الذي جرى به العمل لاحتفال هذا الموسم العظيم النبوي الكريم، أنه إذا طلعت طلائع ربيع الأول مولد النبي الكريم، صلوات الله وسلامه عليه من المولى العظيم، توجهت العناية الشريفة إلى الاحتفال له بما يزري على وصف الواصفين، ويقف دونه أقلام الحاسبين، فتصير الرقاع إلى أرباب الذكر… ويعكف على خدمة رياض الشموع التي تجلو محاسن هذه الدعوة… حتى إذا كان ليلة الميلاد الكريم… وقد انتظم عالم النظارة سماطين بحافتي الطريق من أبواب الخلافة العلية… فارتفعت أصوات الآلة، وقرعت الطبول، وضج الناس بالتهليل والتكبير والصلاة على النبي الكريم… فإذا حضرت صلاة الفجر برز مولانا أمير المؤمنين أيده الله، فيصلي بالناس، ثم يقتعد أريكة قبته، وسرير مملكته، وعليه خلع البياض شعار الدولة الكريمة».
( يتبع )
دة. نبوية العشاب