هدير، تدفق، رش، هبات نسيم، رائحة، أصوات، عيون…لم تكن تلك إلا بهارات غميسة تستفيق من كمونها كلما دنوت فعلا من الشاطئ أو حل الصيف أو كان البحر يسري في ثنايا الحكي لقصة أو رواية أو في فيلم تجري أحداثه نصب عينيك..
قاع اسراس، تارغة، وادي لو، الحسيمة، مرتيل، الرينكون… هو نفس الماء المالح أو نفس الأفق، لكن ليس نفس الهواء، ليس نفس الحرارة، ليس نفس التربة، ليس نفس الهوى… ثم أصيلة…؛ والهوى أهواء بطعم الجسد، و تضاريس الروح، ومجرى العمر، والعمر قصير..
**************
بحر قاع أسراس هو البداية، وهو الامتداد من براءة الخطوة و بساطة العيش إلى اكتشاف الذات والبحث عن موقع قدم في الوجود بين الكائنات البشرية مثلك.
في قاع اسراس انتصبت “شابولة” بشد من عود الدفلى و بظلال وارفة من أوراقها، وبعد سنين كانت الخيمة والدار ثم مزيج من هذا كله. هناك كان لقاء الدهشة بالماء الممتد و تقلباته، كان التوجس من تغول أعماقه وغضب تدفقاته، كان التأفف من ملوحته الخانقة والخوف من غدره، ثم كان التعود على احتضانه، خطوة خطوة، بعد سنين ليست بالقصيرة، وهو عكر المزاج أو صافيه، دافئ الملمس أو بارده..
كيف أحكي عن البداية والامتداد، ولم يكن لي تحت مخدتي الرملية البسيطة أو في حقيبتي البئيسة لاحقا دفتر لتسجيل يومياتي أو تدبيج مذكراتي، كيف أحكي من ذاكرة متعبة، كيف أحكي عن بقايا جمال شقي وشقاء جميل وأنا لا أملك من مفاتيحه إلا أقلها، وكأنني أعصر ضرعا عسيرا…؟ !.
الوصول إلى قاع اسراس عبر تطوان ثم وادي لو لم يكن باليسير، الرحلة كانت دائما محفوفة بالخوف بل الهلع، وكان اللقاء بالبحر كل مرة ولادة جديدة، تليها ولادة أخرى عند رحلة العودة، فكم كنا نشتاق أن يطول الصيف إلى ما لانهاية، وأن لا نكرر بأس الرحلتين، ومع ذلك كان بحر قاع اسراس ينادينا كلما حل الصيف بل يفقدنا نداءه السيطرة على أنفسنا إن بالتفكير أو بالتسويف، فتتكرر الرحلة وكأنها قدر مكتوب…
كنت طفلا تسيح في ذلك المدى من الرمل، لا تكسره بين حين وآخر إلا “شابولة” أخرى أو خيمة أو قوارب صيد مختلفة الأحجام و الأسماء بإيحاءات عشق دفين، وشباك متراكمة أو مفرزة تنتظر الخيط، و مخاطف حديدية و مجادف و ألواح مخرومة الوسط لتسهيل دفع القوارب عند كل دخول إلى الماء أو خروح منه..
بين الماء والرمل يسترعي انتباهك تركيز صياد بالقصبة أو اليد على صيده وغرزه للطعم، ورتق لشباك تحت ظلال القوارب تتخللها سماءها من حين لآخر أدخنة النبتة المهدئة الحالمة ورشفات من شاي معتق. تقف هنا وهنالك على بعد، خجولا لا توحي أنك تنظر إلى تلك الوجوه المعفرة بالبحر و الشمس، ورؤوسها محشوة في الشواشي أو عمامات بيضاء أو هما معا، وأعجب ما يثيرك هو انتصاب خيمة تشبه البيت العصري مقسمة إلى غرف وهي محاطة بكراسي وموائد تطوى ومعدات لا تشبه معداتنا التقليدية أو البدائية، وكان أصحابها يتمتعون بنوع من الخيلاء وكأنهم يقولون: نحن هنا، ولكن مسافة زمنية تفصل ما بيننا وبينكم لأننا قطعنا البحر وأتينا من عالم آخر لايشبه عالمكم في الضفة الأخرى..
شروق مبهج، غروب وردي، قمر يعانق الماء والرمل، سماء رمادية، هدوء مريح كالمسكنات، صخب مخيف، نسيم عليل، ريح تقلق…في البحر لا وقت للبلادة، قال لي صديقي فيما بعد: المزاج البحري متقلب كما الطبيعة البحرية، في البحر عليك أن تكون مستعدا لشتى الاحتمالات، لا ترتكن إلى الاطمئنان والدعة. لا أعرف ماذا كنت تحس به أنذاك، ولكنني أعرف أنك ربما ورثت من البحر أو غيره، تقلب المزاج السريع من الحزن إلى الفرح، من الهدوء إلى الانفجار..
مع الفجر وانفلات خيوط الضوء من عتمتها يستضيف الشاطئ العائدين من البحر بعد سمر ليلي طويل قضوه في خضمه، كنا نرى باطمئنان القبس البعيد لقواربهم حينما يكون الجو صافيا، و لم نكن ندري نحن أبناء الجبل ماذا يحكون للبحر ويحكي لهم في لياليهم، لكن كنا نسمع من حين لآخر عن شجاعة “الرياس” وغير الرياس من البحارة في مغالبة غضب البحر ومكره، فيزداد إعجابنا بهؤلاء الرجال الأبطال، لأن البطولة شرف و لأنهم اختاروا أن يعيشوا الحياة بشرف في مواجهة البحر مثل صداقة صاخبة..
في معظم ليالينا كنا تستضيء بضوء القمر أو النار، تتيه دوائرنا مع الأحاديث و النقاشات الساخنة، أو مع حوارات القيتارات الهادئة الهادرة، فتعلو أصواتنا وتخفت على إيقاع زمنها الجميل، و الحلم بغد أجمل، كانت الأغاني تأسرنا بغنجها الإنساني وسحرها الطوباوي فنطرب، وكنا نحسب أنفسنا في لحظة الجذبة الثورية وكأننا دخلنا عالم النرفانا، و لا يعيينا تكرار ذلك، بعد أن نستفيق كل صباح على واقع عصي يمتزج فيه الحلو بالمر. لقد كان الليل مجدنا و ملجأنا الأخير من انتكاسات النهار وتعبها و ترقبات المساءات الطويلة وكآبتها.
هلا يارجال، هلا يارجال…العاشقين في النبي صلوا عليه…عضلاتهم مفتولة، وعيون السهاد صامدة، والمزاج بحسب حصاد الليل، وكذلك الكرم تدوزنه خيرات من فضة لامعة شهية قد تكثر أو تقل حسب كرم البحر. والبحر في أحشائه الدر كامن..
الطفل الذي كنت، كان يسمع باندهاش ما يقوله الكبار عن صعوبة امتهان ركوب البحر، كانت الفلاحة و تربية المواشي والدواجن في قرية أبويه أقرب إلى ذهنه من صيد البحر لأن السمك ارتبط عنده بشوك كان و لايزال مزعجا له، ويفضله بشوك قليل أو دون شوك..، وربما كان يدور في رأسه البسيط سؤال: لماذا هذه الأهوال من أجل صيد بشوك..ومع مرور الزمن يحتل السمك، عن وعي، المرتبة العليا في نظامه الغذائي، وليته كان يعلم قيمته من قبل..
لم يكن البحر مناط بيع وشراء إلا في الحدود الدنيا من الحاجة إلى المال، كانت علاقات التبادل أكثر اجتماعية قبل أن تطغى عليها القيم التجارية والمالية؛ التبادل بين المدينة والقرية حيث تنسج علاقات إنسانية بين العائلات، لقد كان الصيف فصل الاكتشاف والتقارب والتعارف ثم تبادل الزيارات، وقد احتفظ الزمن بشيء من هذا الأريج، ونهاية موسم الصيف كانت صعبة نفسيا على المقيم والزائر حيث تظلل مراسيم الوداع سحب من الحزن والأسى لم تبرح ذاكرتنا إلى الآن.
عبدالحي مفتاح