يبلغ الرباوي في التعبير عن استبداد الجسد ذروته في قصيدته “لك الملك”:
ما زال بهذا القلب حبيبي متسعٌ
لصهيل امْرَأةٍ زرقاءَ، لها شَعَر كقطيعِ
المِعَزِ الرابض في جِلعادَ لها أسنان
كقطيع نعاج. عيناها بِرَك في حشبونَ
عليها رأس مثل الكرملْ
هي قد رفعت عينيها الناريتين إليَّ
وقالت: لك من هيكل ناري هذي الكأسَ
فَأُمسِكتُ بثوبي. لكنْ لم أترك ثوبي
في يدها. لم أهرب من جسدي، إذ
أخذتني يا مولاي إلى جبل عال جدا
وأرتني كل ممالك هذا العالم. قالت:
أعطيكَ سلالا من هذا الملكوت. أشرت برأسي:
لكِ يا سيدتي مني هذي الأشجارُ، وهذي
الأقمارُ…ضعيفا كنتُ. ضعيفا ما زلتُ،
فها نافذة الجسد المتوهج ما زالت
مشرعة لفحيح الريح. فهلا أرسلتَ-حبيبَ
القلب-رياحَكَ تغسل ما بي من أصداء
الأمس الآسن([1])
حيث يجسد معاناته بصور بالغة الحسية والاتساع؛ ينطلق الشاعر في نموذجه بمناجاة حبيبه/خالقه ليشكو إليه، رغم إيمانه، وجود متسع في قلبه للشهوات يزاحم حب الخالق. وكانت الشكوى عبارة عن تشخيص للداء، كما يراه الشاعر: امرأة زرقاء غريبة الخلقة، بتلك الملامح التي صورها بها، مالئة ذاته بصهيلها، محرقة إياه بعينيها، آسرة له بإغوائها، سيدة عليه في أوامرها؛ تقوده أنى شاءت وتفعل به ما شاءت. ورغم أن الشاعر واع بأنه يسير في طريق ضالة فإنه-وهذه هي مأساته-لم يستطع مقاومة الإغراء، لأن مساحة الجسد في قلبه أكبر من مساحة الروح، وقد ظهر ذلك على مستوى التعبير أيضا بحيث طغت مساحة وصف وسرد الهم الجسدي على ما سواها، وأظهرَ الدعاء الأخير “فهلا أرسلت، حبيب القلب، رياحك…” حالة الفقدان لهذا الجانب الروحي.
والذي يزيد هذا الإحساس حدةً كونُ الشاعر قد عبر قبلُ عما يناقضه بصورة استعارية توحي بتعاظم نار الجسد بشكل يهدده بالهلاك والخسران؛ وذلك في قوله: “نافذة الجسد المتوهج ما زالت مشرعة لفحيح الريح”= فالتوهج اتقاد والفحيح صوت الأفعى مِن فيها والريح لا تحمل إلا شرا (بخلاف الرياح). وقد جاءت عبارات الشاعر هذه في آخر المقطع مؤكدة أن المقصود برمز المرأة هو استبداد الشهوات بذاته مع ما في قلبه من إيمان موقد للصراع بين الجانبين. وقد عمق الشاعر تجربته هنا وحفر في ذاته عميقا لما توسل التناص سبيلا إلى التعبير عن تلك المكابدات الداخلية. والتناص في هذا النموذج يعلن عن نفسه بطريقة غير مباشرة ويجلب انتباه المتلقي إليه بتلك الصور الرعوية الغريبة وبتلك الكلمات المهجورة أو غير المألوفة في الاستعمال، كما يعلن التناص عن نفسه بوضوح باستحضاره قصة سيدنا يوسف u . وكل من التناصين متصل بالمرأة، كما أنهما كليهما مأخوذ من الكتاب المقدس (العهد القديم). جاء الأول على طريقة الوصف الخالص، وجاء الثاني على طريقة السرد؛ الوصف يرصد فيه الشاعر هذا المخلوق الخارق/المرأة، والسرد يحكي فيه سلسلة من الأحداث التي تظهر ضآلته في يدها وانهزامه أمام جبروت إغوائها. وفي آخر النموذج يفر الشاعر من هذا التناص المزعج ليتوجه بالدعاء إلى الخالق. ومما جاء في العهد القديم عن النوع الأول(وصف المرأة) في نشيد الإنشاد:
حوِّلي عني عينيكِ فقد غلبتاني
شَعْرك كقطيع المِعْز الرابض في جِلعادَ([2])
أسنانكِ كقطيع نعاج صادرة من الغُـَسْلِ
اللواتي كل واحدة مُتْئِمٌ وليس فيه عقيم
عيناك كالبِرَك في حشبونَ([3]) عند بابِ بثِّ ربّيمَ
أنفُكِ كبرج لبنانَ الناظِرِ تجاه دمشقَ
رأسُكِ عليكِ مثلُ الكرمل وشعر رأسك كأرجوان
ملِكٌ قد أُسِر بالخُصَل.
ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة باللذات([4])
إن نشيد الإنشاد هذا المليء بالغزل الحسي الملتهب، ربما كان أقدم غزل بحث له شارحوه عن تأويلات تتناسب والتعبير عن الحب الإلهي ما دام في “كتاب مقدس”([5])، وإن كان الجميع يعترف بشعرية عبارته واتصافها بتلك اللغة الأولى المفعمة بالبراءة والبساطة والوجدان الدافق والروحانية السامية([6]).
فصَرْف هذا الغزل الحسي عن الظاهر إلى التعبير عن التنزلات الإلهية، أو التعبير عن الجانب الطفولي في حياة الإنسان البدائية، يفرضه السياق الديني في الرأي الأول، ويفرضه قِدم النص وخلفية القراءة في الرأي الثاني. إلا أن الرباوي قلَب مثل هذه الآراء ذات السلطة القضائية العالية، فحوّل عبر عملية التناص تلك القراءات الروحية والطفولية، وفهِم النص على ظاهره؛ ليعبر به عن القوى الظلمانية والقهر الجسدي؛ ليوحي بذلك بغرابة استبداد الجسد بالذات، تماما كتلك الغرابة التي تُضفَى على الانطلاق في عالم الروح، إضافة إلى التأمل الذي يطبع هذه الصور بما فيه من عناصرها المتراكبة والوقائع المتتابعة تضاهي الواقع في سطوعها ونصاعتها. وإن في إضافة الشاعر لبعض الصفات المنفرة لهذه المرأة ما يوحي بمقصدية التحويل هذه، فالزرقة غالبا ما تأتي لديه، وهي كلمة لها وقع خاص لدى الرباوي، للتنفير، أما الصهيل فاستعارة من عالم الحيوان للدلالة أولا على أن المقصود هو الجسد أو الغريزة الحيوانية، وللدلالة ثانيا على ملئها هذه الذاتَ بالأصداء؛ أصداء يريد الشاعر أن يقول بأنها ليست خافتة يمكن تجاهلها أو عدم تبيُّن نوعيتها، وإنما هي صهيل مدَوٍّ يتردد في جميع أرجاء الذات؛ يزعجها ولا تجد إلى حجبه سبيلا.
أما النوع الثاني وهو سرد ما فعلت هذه المرأة بالشاعر، فما يتعلق بالتناص فيه، فمأخوذ من قصة يوسف u من الكتاب المقدس أيضا (العهد القديم). وقد يقول قائل: لماذا يلجأ إلى الكتاب المقدس والقصة مفصلة في القرآن الكريم أحسن تفصيل؟ فنقول إن للتناص علامات يحيل بها المتلقي إلى جهة دون أخرى، وعلاماته غالبا هي تلك الألفاظ التي ينتقيها الشاعر ويجدها الأقوى تعبيرا عن حالته والأكثر انسجاما وتلاؤما مع سياق قصيدته، خاصة وأنه كما تَبيّن من التناص الأول أيضا أراد أن يعبر بعنف عن توهج الجسد ونار الشهوة واتقاد الرغبة واستسلام الذات؛ فوجد ذلك في الصور العارية المفضوحة في التوراة، ولم يجده في الصور البيانية الكنائية في القرآن الكريم، فقد جاء في العهد القديم: «وحدث بعد هذه الأمور أن امرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف وقالت اضطجع معي…وكان إذ كلمتْ يوسفَ يوما فيوما أنه لم يسمع لها أن يضطجع بجانبها ليكون معها ثم حدَثَ نحوَ هذا الوقت أنه دخل البيت ليعمل عمله ولم يكن إنسان من أهل البيت هناك في البيت، فأمسكته بثوبه قائلة اضطجع معي. فترك ثوبه في يدها وهرب وخرج إلى خارج»([7]). فعبارات (رفعت عينيها- فأمسكته- فترك ثوبه في يدها- وهرب) كلها علامات واضحة الإحالة على التوراة لا على القرآن الكريم، ومن السهل إدراك الفروق بين هذه العبارات وبين ما قد يكون أتى مقابلا لها في القرآن الكريم([8]). أما التحويل الأساس الذي قام به الرباوي ليتلاءم ومقصديته الخاصة المخالفة فهو عدم تركه لثوبه في يدها وعدم هربه استسلاما منه وإذعانا لرغبات الجسد. وهو لا يزال كذلك إلا أن يرى برهان ربه وهو الطامع فيه بدعائه كما ورد في آخر المقطع.
ومن هنا نلاحظ أن الرباوي في نموذجيه، وربما في نماذج أخرى، غالبا ما يشكو من وقوعه فريسة للجسد؛ وتكون المرأة الرمزَ المفضل لتأدية هذه الدلالة التي يتوخى الشاعر من ورائها الاعتراف بالذنب ونشر مكنونات الذات أمام الخالق عساه بذلك يحظى برحمته وعفوه، وحتى في تلك القصائد التي يبدو فيها متوهج الإيمان نراه مثقلا بأحجار الجسد، تلك الأحجار التي ينعتها ب”الفوارة”. وقد خص هذا الجسد بمجموعة شعرية كاملة هي الحاملة لهذا الاسم/العنوان (الأحجار الفوارة).
[1] – “لك الملك”، الأحجار الفوارة؛ 51-52.
[2] – أرض تقع شرقي الأردن وبها الجبل الذي هرب إليه النبي يعقوبu كما جاء في التوراة، سفر التكوين الإصحاح 31؛ ج: 21، 25. – المفصل في تاريخ العرب؛ 461:1.
[3]-« Heshbon: تعرف اليوم ب “حسبان” وتقع بين “عَمان” و”مأدبا” وعلى مسافة 26 كم من شرق النهاية الشمالية للبحر الميت في صعيد “موآب”… والظاهر أنها كانت من مدن النبط، ثم دخلت أخيرا في أملاك الرومان فالبيزنطيين ولا تزال آثار المدينة القديمة باقية حتى الآن».- المفصل في تاريخ العرب؛ 66:3.
[4] – العهد القديم، نشيد الإنشاد؛ الإصحاح السادس؛ ج: 5-7، والإصحاح السابع؛ ج: 3-6.
[5] – ينظر بعض هذه التأويلات في كتاب د. رجاء عيد، لغة الشعر؛ 182.
[6] – ينظر ما وصفه به يوسف سامي اليوسف في كتاب د. عبد العزيز المقالح، أزمة القصيدة العربية؛ 97.
[7] – العهد القديم، سفر التكوين؛ الإصحاح؛ 39: ج؛ 7، 10-12.
[8] – ينظر المقارنة التي قام بها مالك بن نبي في الموضوع الذي نحن بصدده في:- الظاهرة القرآنية؛ 206-208.