يشاهد قطرات المطر فيشعر براحة كبيرة وكسل عظيم وبالكثير من المتعة. هذا الخمول اللاإرادي الذي ينتابه لربما يعود إلى أيام طفولته التي قضاها في الشتاءات الطويلة، قضاها في سرير خشبي وبين أحضان غطاء صوفي ثقيل «الحنبل» و»البطانية» وهو كمن وافته المنية تحتهما لايكاد يتنفس والبخار يخرج من فمه. غالبا، هذا الخمول الذي يعتريه يعود لأيام الطفولة تلك..
الفجر اقترب وهو يغمض عينيه الاثنتين ويغلق أذنيه حتى لا يسمع صوت أمه تناديه لتناول السحور. لقد نام للتو والصقيع ينتشر في الغرفة. يتسلل من شقوق النافذة والباب.
صاحت أمه بأعلى صوتها، وهي تتلحف بمنديل صوفي وتحيط خصرها بمثله ويداها منتفختان ومحمرتان من شدة البرد: سفيان، سفيان، انهض، انهض يا بني الزواطة ستنطلق بعد قليل.
دفن رأسه تحت الأغطية وصب جام غضبه على البيوت الباردة. المنازل التي لا توفر الدفء لسكانها على الحياة التي تستمر دون إحساس بمشاعر الآخرين سواء شعرت بالبرد أو بالجوع أو بالعطش أو بالظلم والحرمان، حياة دون مشاعر تماما. إنها محايدة. إنها باردة مثل منازلنا.
عادة لم يكن لينهض من فراشه أبدا. يذكر كيف كانت أمه تجلب له الطعام والماء للفراش وسطلا للمضمضة وغسل اليدين ثم يعود للاختباء في سريره للغوص فيه وفي أحلامه التي لا تنتهي. كلها بسيطة وضرورية لحياة بسيطة وعادية. لكنها كانت تبدو مخملية آنذاك. يتذكر أمه وصبرها الذي لا حدود له ورغبتها في خدمة سكان المنزل بتفان وطيبة وصدر رحب مع جرعات زائدة من الحنان والعطف. ما أجمل الأمهات وما أعظمهن في كل وقت وحين وتحت أي ظرف.. اليوم، وبعدما أصبح أبا هو الآخر يحن لتلك الأيام التي كانت تبدو له آنذاك سوداء وقد صارت الآن تبدو له فردوسا مفقودا يشع حبا ودفئا وحنانا.
حميدة جامع