طنجة الساحرة !
هكذا تحضر في أذهان كل المغاربة، بكل فئاتهم المتراتبة. تحضر في أذهان المثقفين والنخب ورجال الأعمال، وفي أذهان البسطاء وعامة الناس.
هكذا تحضر أيضا في أذهان الآتين إليها من كل بقاع العالم.
وهكذا حضرت طنجة عبر تاريخها السحيق.
أكيد أن طنجة تستمد جزء عظيما من دهشتها من خلال الصورة الدولية التي ارتبطت بها لفترة طويلة. فلقد كانت إقامة “فردوسية” لكبار الفنانين والأدباء والسياسيين، وخلفت وراء ذلك حكايات مخلدة الآن في الكتب والمصنفات.
لكن الآكد أن المدينة شهدت في آونتها الأخيرة تحولات هيكلية قصوى طالت كل مستوياتها “المدينية” و”الحضرية”. والآكد أيضا أن تهيئتها الحديثة صنعت دهشة لافتة في عيون كل زوارها.
مع الإطلالات الأولى لأجواء “يوليوز” يبدأ الجميع يتهيأ لطنجة. يتهيأ ليعيش صيفا استثنائيا في مدينة “مُدَوِّخَةً” سياحيا.
أتخيل أن كل هذه المعاني تحضر بقوة في وعي كل المتقلدين لمسؤولية تدبير شأن طنجة. تحضر بمعناها “التشريعي” الملزم قانونيا، وتحضر بمعناها التاريخي الملزم أخلاقيا.
بعض المؤشرات التي قد ترقى إلى مستوى الاختلالات، ربما ستجعلنا جميعا نتطلع إلى صيف قد لا يمر بالصيغة الفردوسية المأمولة التي يهيئ الجميع نفسه لها.
ـ الحاجة إلى الماء.
فقد أفاد تقرير مدقق تقدم به “مرصد حماية البيئة والمآثر التاريخية” بطنجة أمام وسائل الإعلام أن حاجة المدينة إلى الماء سترتفع هذه السنة إلى ما يناهز 67 متر مكعب. ومعنى ذلك ببساطة أن اختلالا قد يصل إلى 46 في المائة سيحصل بينه وبين المخزون المتوفر. ولم يفت التقرير التذكير بأن حجم استهلاك طنجة للماء يرتفع سنة بعد أخرى.
معدل استهلاك طنجة للماء خلال سنة 2018 وصل إلى إلى 117469 مترا مكعبا في اليوم حسب التقرير، وهو معدل مرتفع مقارنة مع المعدلات الوطنية.
أخلاقيا قد تكون هناك ربما دواعي غير أخلاقيا تجعل استهلاك طنجة هدرا حقيقيا لطاقتها المائية. غير أن دواعي أقوى منها تقتضي أن يضع المسؤولون في الاعتبار صورة طنجة التي نصدرها للعالم كقطب سياحي واقتصادي وصناعي واجتماعي جالب للاستثمارات الناهضة بطنجة، وتقتضي أيضا التفكير في استراتيجية مائية استثنائية تسد خصاصا طارئا قد يخدش صورة طنجة أمام أنظار العالم.
استهلاك الطريق.
ربما تكون طنجة تختلف عن باقي مدن المملكة من حيث استهلاكها للطريق، وذلك بالنظر إلى الاكتظاظ الذي تعرفه طرقها الداخلية، أو المؤدية إليها على مدار السنة، وبالنظر أيضا إلى أن طنجة هي من بين المدن المغربية التي تتوفر على جالية مقيمة بالخارج يرتفع عددها باستمرار، تتوافد على مدينتها في مختلف المناسبات. كما أن الترامي المتباعد لبنيتها الصناعية، ولربما السياحية أيضا يؤجج حركيتها في السير ويجعلها ضاغطة.
طنجة مغرية من حيث بنيتها التحتية العامة، ومشجعة على استخدام مختلف المركبات في تنقلاتها الفردية والجماعية، الامتيازية والخدماتية.
لسنا في حاجة إلى لتذكير بالمآسي التي انفجرت مؤخرا مخلفة حوادث سير مفجعة نتجت عن سوء تقدير، أو سوء وعي في استعمال الطريق.
وسواء تعلق الأمر بحادث نقل العمال المفجع بمنطقة بني مكادة نتج عنه إزهاق أرواح ثلاثة أشخاص (رجلان وامرأة)، فيما أصيب أربعة عشر آخرون بإصابات مهددة بالموت، أو بحادث انقلاب حافلة النقل المزدوج بملوسة والتي خلفت بدورها ضحايا وصل عددهم إلى خمس وعشرين حالة، خمسة منهم ميؤوسة، أو بغيرها من الحوادث التي تنتشر هنا وهناك، وعلى وجه الخصوص بالواجهة الأساسية لسياحة طنجة (الكورنيش)، فإن الحاجة إلى طرق آمنة من بين أكبر الأوليات والتحديات التي قد يواجهها صيف طنجة حاليا.
بيئة بحرية استشنائية.
بحر طنجة عبر التاريخ جالبا للأنظار والأذواق، الداخلية والخارجية. وفي متخيلات العالم ترسخت المياه الزرقاء لطنجة ورمالها الصافية كنموذج للشواطئ المصنفة. غير أن المآلات المشوهة التي بدأت تعرفها بعض المنتجعات قد تؤشر على تراجع الصورة البحرية المثالية لمدينة الساحلين.
الجميع يعلم أن طنجة تطل من الناحية الشمالية الموالية للبحر الٲبيض المتوسط على خليج متسع بطول 12 كيلومترا بين باب البحر في القصبة ورأس ملباطا. وهو الخليج الذي يدعوه الطنجاويون بـ “playa”، وهو من أهم المناطق السياحية لمدينة طنجة، فهو متصل بوسط المدينة الذي يعد المركز الاقتصادي للمدينة، كما يتصل أيضا بالقصبة التي تشكل المدخل البحري للمدينة القديمة والمدينة البرتغالية. ومن جهة أخرى فهو ينتهي بقلعة مالاباطا والمنتجعات السياحية في منطقة المنار.
يعرف “الكورنيش” إهمالا ملحوظا على مستوى التأهيل المائي الذي يفترض أن يواكب التأهيل الحضري الضخم الذي عرفه. تحتاج الـ “playa” إلى رعاية مائية استشنائية، وتحتاج أيضا إلى رعاية اجتماعية أكثر استثناء. فلا يعقل مثلا أن تنشر الكلاب الضالة على مدار أربع وعشرين ساعة تهدد السلامة الجسدية والنفسية لزوار طنجة.
شاطئ “مرقالة” الفاخر من جانبه يهدده باستمرار تسلل المياه العادمة التي تعكر صفوه، وتنفر الناس منه.
الجريمة.
تكشف المعدلات المرصودة أن الجريمة الاجتماعية بطنجة تنتعش بين الفينة والأخرى، مقدمة صورة أمنية مقلقة تخيف الرأي المحلي، وقد تخيف الرأي الوطني والعالمي. فاعتراض سبيل المارة، وتهديد أرواحهم وممتلكاتهم قد يثير مؤشرا يبعث على عدم الاطمئنان للصورة الجميلة التي نتوق إليها جميعا في أن نتجول بين أرجاء طنجة آمنين سالمين.