كنت بعد أن حصلت على شهادة الباكالوريا قد وجهت رغما عني لدراسة الأدب العربي بكلية الآداب ظهر المهراز بفاس مع عدد من الزملاء حيث أمضيت سنة بها ثم التحقت بالمدرسة العليا للأساتذة بتطوان وتخرجت منها وعينت أستاذا للغة العربية، وفي أثناء اشتغالي بالتدريس التحقت بكلية العلوم القانونية والسياسية بالرباط حيث أمضيت سنتين بشعبة العلوم السياسية وفي أثنائها سجلت نفسي أيضا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط في شعبة التاريخ والجغرافيا فحصلت على الإجازة في التاريخ ثم على شهادة استكمال الدروس وبعدها ناقشت دبلوم الدراسات العليا في التاريخ المعاصر بجامعة محمد الخامس. وبعد انتقالي إلى تطوان جمدت اهتمامي بالبحث العلمي وانصرفت للعمل السياسي والجمعوي لمدة طويلة قبل أن أكتشف أن الميدان الذي أجد فيه نفسي هو البحث والكتابة وأن الأجدر بي هو استكمال مسيرتي العلمية التي توجت بحصولي على شهادة دكتوراة الدولة من جامعة عبد المالك السعدي. وقد كلل السعي زيادة على نشري لعشرات المقالات في المجلات والصحف بإصداري لعديد من الكتب وترجمة بعض المؤلفات الأجنبية، وكان أول كتاب أصدرته هو: تطوان في القرن التاسع عشر مساهمة في دراسة المجتمع المغربي، وتلاه تطوان في القرن الثامن عشر: السلطة والمجتمع والدين. وانكببت بعد ذلك على تهييء عمل استغرق مني وقتا طويلا وصدر في جزأين وهو: الاستعمار الإسباني في المغرب المقاومة المسلحة والنضال الإصلاحي والسياسي الوطني. وألفت كتابا بالإسبانية بعنوان: صورة إسبانيا في التأريخ المغربي للقرون 16 و17 و18. وأما الأعمال التي قمت بترجمتها إلى العربية مع تقديم وتعليق فهي كالتالي: تاريخ ثورة الموريسكيين وطردهم من إسبانيا وعواقبه.. وحروب غرناطة الأهلية وهو في جزأين. إسبانيا والمغرب: علاقاتهما الدبلوماسية خلال القرن التاسع عشر. ورسائل فنلندية ورجالات الشمال.وقمت بمراجعة وتقديم رواية الزاوية. وهناك عملان قيد النشر وهما: رأس الرخامة والهجرة من غرناطة إلى تطوان وآثارها في المضيق. كما أن لي كتابين قيد الإعداد وهما: تطوان وجوارها خلال عقود قبل الحماية. وترجمة كتاب مارمول كربخال: تاريخ ثورة موريسكيي غرناطة وعقابهم.
ربما أول كتاب قرأته إذا استثنيت كتب المقررات الدراسية من آداب وتاريخ وفلسفة كان هو كتاب «فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية» الذي نقله إلى العربية الشيخ الدكتور صبحي الصالح والدكتور فريد جبر ولعله أيضا أول كتاب اقتنيته لمكتبتي الصغيرة وأنا لازلت تلميذا بالثانوي، وبعده كتاب «النصوص الفلسفية الميسرة» للدكتور كمال اليازجي وثم مجموعة أحمد أمين بك.
نقرأ الكتب والمجلات وحتى الصحف لننير عقولنا ولنكتسب أفكارا ومعلومات تفيدنا وتساعدنا على تكوين شخصيتنا، فالقراءة بالنسبة للفرد تكون على مراحل ترتبط بسنه وباهتماماته وانشغالاته، وقد تكون في سن مبكرة منذ أن يلج المرء المدرسة فتكون القراءة لأجل التعلم واكتساب عدة مهارات وحينما ينضج الفرد تصير القراءة لأجل التثقيف الذاتي وصقل المواهب فقد يتحول القارئ من هاو وممارس وأيضا مستهلك للقراءة إلى منتج لها بمعنى أنه يصير يكتب ليقرأ الآخرون بغض النظر عما يكتبه. ولا يختلف هاوي القراءة عن الممارس لها فكلاهما يستهلكان الوقت في القراءة وربما لا يختلفان حتى في اختياراتهما فيكون هدفهما هو تحقيق الإشباع، بيد أن هناك من يقرأ المنشورات التي تجد لها هوى في نفسه أو التي هي من باب تخصصه ومجالات بحثه أو استكمال دراسته.
إن الذي يحب القراءة لا يجد حرجا في ضبط الزمان والمكان فيمكنك أن تقرأ وأنت راكب قطار أو طيارة أو تكون مستريحا على أريكة أو مستلقيا عند قيلولة أو على رمال شاطئ أو في نزهة واستجمام، على عكس الكتابة التي في رأيي تتطلب هدوء النفس وراحة البال وتحبذ السكون ولا يعدم مع ذلك من يجد راحته بين الناس مثلا في المقهى حيث الويفي مجاني فلا يضيره دردشة ولا لغط الآخرين. وأنا أقرأ لنفسي بطبيعة الحال وأجد لذة في ذلك كلما استهواني مقال أو كتاب لكنني لا أكتب لذاتي وإلا فما الباعث على النشر في الصحف والمجلات وطبع الكتب وأظن أن تجربتي في الكتابة كانت إيجابية منذ أولى محاولتي الأدبية، ولقد فتح اهتمامي بالتاريخ أمامي آفاقا لصقل موهبتي في الكتابة فشرعت فيها في شكل مقالات وبحوث ومشاركات في ندوات علمية فكتبت في تاريخ المغرب حديثه ومعاصره وكما جذبني تاريخ أواخر المسلمين في الأندلس.
إن الاهتمام بكتابة التاريخ المحلي يدخل ضمن الأعمال المونوغرافية بالاعتماد على الوثيقة أساسا وهو ما نادت به المدرسة التاريخية المغربية المعاصرة وما لقنه لنا أقطابها إبراهيم بوطالب وجرمان عياش ومحمد زنيبر وغيرهم والذين تخرجت على أيديهم، ويقتضي الأمر دراسة كل منطقة على حدة فيتم الانتقال من الجزئي إلى الكلي بتجميع مختلف الدراسات ومن ثمة كان اهتمامي بتاريخ المنطقة وبالأساس التاريخ المحلي، كما لا أنكر تأثري بمصاحبة المؤرخ المرحوم محمد ابن عزوز حكيم الذي لا يقل فضلا عما أسداه المؤرخ المرحوم محمد داود بـ «ملحمته» عن تاريخ تطوان.
والأمانة والموضوعية شرطان أساسيان ينبغي أن يتحلى بهما المؤرخ إلا أنه من الندرة والصعوبة أن تجد مؤرخا يحلل الوقائع التاريخية دون أن يكون به هوى أو ميل ولو قليلا وهذا الأمر ينطبق بالأحرى على مؤرخينا القدامى وعلى إخباريينا وأغلبهم يتبعون السلطة القائمة، لكن من يكتب التاريخ المعاصر فإنه يتتبع الأحداث بدقة ويبني تحليله على الوثائق المتوفرة ويقارن بين هذه وتلك بحثا عن الحقيقة التاريخية وقد يصطدم بعراقيل لكنه يحاول ما أمكن أن يلتزم بالموضوعية في كتابته، وهناك النقد التاريخي الذي له دور مهم في ضبط كثير من الأمور فضلا عن وجود كثير من المصادر يمكن للمؤرخ أن يستنتج منها معلومات وفيرة مع تعدد الأبحاث والدراسات وتنوع وسائل الإعلام والاتصال.
تجربتي التربوية في التعليم ولله الحمد كانت إيجابية ومفيدة ولا مجال لأمتدح نفسي فقد درس على يدي جيلان من التلاميذ والطلاب وحتى أنني لما غادرت القسم والتدريس طوعيا لم أستنكف عن متابعة رسالة التعليم فقد درست لمدة ناهزت اثنتي عشرة سنة بدون مقابل في السلك الثالث بكلية الآداب بتطوان وفي سلك الماستر والدكتوراة ووجهت كثيرا من الطلاب الباحثين الذين لازال بعضهم على اتصال بي فيما يخص بحوثهم للدكتوراة، وأحمد الله تعالى الذي منحني هذه القوة لأقوم بهذا العمل من غير جميل من أحد رغم أنه يحز في نفسي أن الذي اشتغلت معه طيلة هذه المدة ورقي في منصب كبير لم يكلف نفسه حتى بكتابة وريقة تعبر عن شكر واعتراف بهذه الخدمة التي أسديتها خلال مواسم جامعية عديدة بدون مقابل ولوجه الله تعالى.
إن مهنة التعليم من أشرف المهن فالمعلم والأستاذ صاحب رسالة شرط أن يؤمن بها ولا يحتقرها وهو يكون ملقنا ومتلقيا في نفس الآن فإعداد الدرس وسر نجاحه يكمن في القراءة أي في التزود بالمعلومات التي تساعد الملقن على تبليغ رسالته وهي تساعده أيضا على الكتابة وبالتالي فعملية التعليم عامل مساعد وليس عائقا فبالنسبة لي مثلا طلب مني أن أدرس التاريخ والجغرافيا بعد تعريب المادتين فكان سببا لي في قراءة التاريخ وكتابة الدروس ثم التخصص في المادة.
لا أحتاج إلى كثير من التنظيم للوقت فلدي ولله الحمد فائض من الوقت لأتفرغ للقراءة والكتابة وقد وجدت في فترة الحجر الصحي وفي التدابير المتخذة من قبل السلطات لمواجهة الوباء فرصة لأمضي بالبيت مدة أطول وبالتالي مناسبة فريدة لأخلو للقراءة أو أجلس لتحرير مقالة أو فصل من فصول كتاب.
د.عبد الواحد العلمي