شكر واستئذان:
أغتنم هذه الفرصة لأشكر الصديق العزيز د. عبد الواحد التهامي العلمي على هذه المبادرة الطيبة حيث اقتحم بشجاعته عوالم نحرص جميعا على إخفائها، ونفضل تحصينها على أن نتقاسمها مع الآخرين تمتينا للصداقات، وإغناء للتجارب، واكتسابا لمزيد من الخبرات والعادات الحسنة. كما أستئذنه في الانزياح قليلا ــ شكلا ومضمونا ــ عما طرحه من أسئلة، واقترحه من قضايا.
السيرة والإنتاجات:
حسن بنيخلف باحث وإطار إداري بمؤسسة تعليمية، درس وتخرج من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمرتيل (1988)، وتابع دراساته العليا بنفس الكلية ليتوجها بإنجاز أطروحة عن: الرسائل الصوفية: أسسها الفكرية وخصائصها الفنية بإشراف الأستاذ محمد مشبال؛ والتي نوقشت بتاريخ 04 نونبر 2010. ومن كتبه: بلاغة الرسائل الصوفية ــ رسائل ابن عربي نموذجا، دار كنوز المعرفة، 2019. كما شارك في مؤلف جماعي (البلاغة وأنواع الخطاب) بدراسة عن “بلاغة التوقيعات”، إشراف محمد مشبال، رؤية للنشر والتوزيع، 2017. ونشر مقالات تربوية ونقدية بالجرائد الوطنية والمواقع والمدونات الإلكترونية٭.
https://nayassir.wordpress.com/٭
أسئلة القراءة:
لماذا أقرأ؟ أعترف أنني أجد أحيانا صعوبة في الإجابة عن بعض الأسئلة، مهما تكن بسيطة وواضحة ومباشرة، كالسؤال المتعلق بمبررات القراءة. والسبب في ذلك أن بعض عاداتنا المكتسبة قد أضحت كالسلوكات الغريزية التي لا تحتاج إلى تبرير، ومنها القراءة. وعموما يمكن القول إنني أقرأ رغبة في الإشباع، أو بحثا عن الاقتناع، أو طمعا في الاستمتاع. وقد أقرأ تعزيزا لتجاربي وخبراتي، أو إغناء لأرصدتي البنكية: أرصدتي المودعة في بنك المعلومات والمعارف والمشاعر والقيم.
أين أقرأ؟ إن القراءة باعتبارها طقسا قد اندثرت، أو في طريقها إلى الاندثار لتستحيل إلى عادة أو تقليد يصر قليل من الناس على المحافظة عليه، وإحيائه في أوقات ومناسبات مخصوصة. وبهذا نكون قد جردنا القراءة من صفة التقديس، وما تستوجبه من الاحترام الواجب لها بعدما انتهكت حرماتها. ورغم ذلك فإن القراءة مازالت تحتفظ بشيء من “الهيبة”، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالقراءة المتدبرة والمنتجة، والتي لا يمكن أن تنجز إلا في فضاءات خاصة (البيت، المكتبات…) حيث الكتب والأقلام والأوراق والهدوء؛ وكلها عوامل تساعد على القراءة، كما تغري بالكتابة.
ماذا أقرأ؟ سأجيب عن هذا السؤال من خلال إجراء تحقيبي أشير من خلاله إلى مراحل القراءة كما مررت منها، وهي كما يلي: المرحلة العاطفية والمرحلة الإيديولوجية والمرحلة الجمالية. وعموما فهناك حرص على تنويع القراءة لتشمل كتبا في التفسير والتصوف والبلاغة والسرد والنقد؛ فمنها أتزود بقوت القلوب للكشف عن المحجوب في النصوص والخطابات. كما أحرص أن أتهجى، بين الفينة والأخرى، فقرات مكتوبة بـ”لغة الكفار” حتى آمن خبثهم الإيديولوجي ومكرهم السياسي الثاويين في كتبهم عن البلاغة الجديدة والأجناس الأدبية وغيرهما! أما الشعر فيجب علي أن أعترف ــ مع احترامي وتقديري لكل الشعراء ــ أنني اضطررت منذ الثمانينيات من القرن الماضي إلى أن أبرم مع الشعر العربي ــ وفي رحاب كلية الآداب بمرتيل ــ اتفاقية حسن الجوار؛ وهي الاتفاقية التي مازلت ألتزم ببنودها إلى اليوم؛ فلا الشعر يكاتبني ولا أنا أدارسه؛ علما بأنني مقتنع بأنني لم أكن مصيبا ولا موفقا في هذا الاختيار الجمالي، وأن علي مراجعته وإن فات الأوان. وفي مقابل ذلك أحرص كل الحرص على مطالعة الصحف الوطنية إيمانا مني بدورها الإعلامي والتثقيفي والترفيهي و”التوعوي”. ولهذا أوصيكم خيرا بصحفنا الوطنية، المستقلة منها والحزبية، والتي أتخوف من أن تفارقنا على حين غرة، ومن دون سابق إنذار. إنها في حاجة إلى عنايتنا لما تشكو منه من عزوف، وإلى تضامننا لما تتعرض له من ضربات تحت الحزام، وإلى دعمنا لما تعانيه صفحاتها الورقية من منافسة شرسة تتولى كبرها المواقع الإلكترونية.
ماهية الكتابة ورهاناتها:
الكتابة في أصلها استجابة لمثيرات ذاتية واستفزازات موضوعية؛ وبالتالي فقد تكون تنفيسا وترويحا عن النفس، أو تعبيرا عن رؤية وموقف، أو تحليلا لقضية أو تأويلا لظاهرة. وقبل الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالكتابة نؤكد أن الربط الجدلي بين القراءة والكتابة قد أضحى متجاوزا ما دام المقروء لا يفضي، حتما، إلى إنتاج أجناس من الكتابة بشروطها وأشكالها المعتبرة فنيا وجماليا. ولهذا سيظل سؤال الجدوى من الكتابة مطروحا باستمرار. كما ستبقى مجموعة من التحديات قائمة ومنها: كيف نحول المقروء إلى كتابة مبدعة لا منتحلة؟
متى أكتب؟ إن الكتابة، في نظرنا، مشروطة بأوقات وأحوال مخصوصة؛ إنها لحظة تدفق الواردات، والتي تفرض على الكاتب أن يعقلها بالتدوين حتى لا تنفلت من بين أصابعه لكونها ترد استرسالا. أما القراءة فالتقطع جائز في حقها بشرط التوثيق؛ فافهم هذه الإشارة ترشد إلى أوضح المسالك في القراءة والكتابة إن شاء الله تعالى. ولهذا يجب الإنصات للواردات و”معايشتها” إلى أن تصبح الكتابة حالا من أحوال الكاتب لا ينفك عنها إلا بانقطاع الواردات؛ علما بأن القراءة إذا كانت لذة ومتعة، فإن الكتابة ستصبح، على العكس من ذلك، مكابدة ومعاناة. ولهذا أستغرب كيف يستسهل بعضهم الكتابة فيدبجون دراسة كل شهر، وكتابا كل حول!
لمن أكتب؟ لكل كاتب قارئه الافتراضي الذي يتوجه إليه وهو يكتب مقالا، أو يسرد أحداثا، او ينظم شعرا. إنه القارئ الذي يستشعر جلال الكلمات، أو يفتتن بجمال العبارات، أو يؤمن بقوة الأفكار، أو يستسلم لرهافة الأحاسيس. فإذا لم ينتفع القارئ مما أكتب، وإذا لم يقتنع، وإذا لم ينفعل، فعلي أن أقر ــ أنا الكاتب ــ بعجزي وفشلي.
لماذا أكتب؟ أزعم ــ غير كاذب ــ أن الإحساس بالمسؤولية هو الدافع إلى الكتابة. وبيان ذلك أن القراءة إذا كانت حقا (حرية)، فإن الكتابة واجب ومسؤولية. والمسؤولية تفرض على الكاتب نوعا من الالتزام علميا وأخلاقيا، وكثيرا من التحوط خاصة بالنسبة إلى المتهيب من الكتابة أو المقل فيها، وذلك حتى لا يصنف إبداعه لأجناس من الكتابة في خانة “شعر الباطل” أو “رواية الرجم بالغيب”. من هنا يصبح التهيب من الكتابة مشروعا لاسيما عندما نصطدم بمواقف في منتهى الغرابة؛ ومن ذلك أن مسؤولا عن ملحق ثقافي مغمور كان قد وافق على نشر دراسة أنجزتها اتخذت موضوعا لها: القول الصوفي من المنظور البلاغي “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة” نموذجا؛ غير أن هذا المسؤول نشر الجزء الأول وامتنع عن نشر ما تبقى منها لأسباب مجهولة؛ وهو الأمر الذي شكل صدمة ومنعطفا خطيرا في مسيرتي ككاتب مبتدئ. وإيمانا مني بقيمة الدراسة حلقت بها، على جناح النشر، نحو الشقيقة مصر ــ مشكورة ــ حيث نزلت ضيفا على “ديوان العرب” معززا مكرما. ولقد كنت أعتزم إنجاز دراسات أخرى عن “بلاغة القول الصوفي”، غير أنني قررت أن أتولى إلى الظل، وذلك بعدما اقتنعت أن بعض متصوفة النشر قد انقلبوا على الشعار الخالد للشيخ النفري، ورفعوا شعارا بديلا مفاده: كلما اتسعت الكتابة ضاق النشر.
ومرت الأيام والسنون لأعود إلى الكتابة من جديد ــ في الأسابيع القليلة الماضية ــ حيث صغت مقالا شديد اللهجة عن الإجراءات الضبطية التي صاحبت احتجاج الشغيلة التعليمية، وانتصرت فيه ــ عن حمية واقتناع ــ لزملائي الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد؛ وبعد الفراغ من الصياغة، تأبطته لأطوف به على مجموعة من المواقع الإلكترونية من دون جدوى، فاضطررت ــ وأنا عائد بخفي حنين ــ إلى تعليقه، مرغما، على حائط للتواصل الاجتماعي؛ ولم أنشر منه، بعد استيعابي للدرس، إلا النسخة المنقحة؛ وتخلصت من النسخة المزيدة بانفعالاتها، وأوصافها القدحية، وتحليلاتها المنحازة، وتأويلاتها المغرضة.
ماذا أكتب؟ سبق لي أن كتبت ــ في بداياتي الأولى ــ نصا سرديا فلم يُلتفت إليه؛ كما نظمت الشعر ــ قبل أن أعاهده ــ فلم تنشر منه مجلة مغربية محتشمة إلا أبياتا، وعلى استحياء. ولجـأت إلى كتابة المقالات التربوية قائلا: هذه تربية، هذا اختصاصي؛ فتمكنت من نشر معظمها في الصحف الوطنية؛ ولهذا أوصيتكم بها خيرا.
القراءة والكتابة وسؤال الإكراهات:
كيف يمكن تنظيم الوقت في القراءة والكتابة؟ لا شك في أن تنظيم أوقات القراءة والكتابة من العوامل المساعدة على حسن استغلالها واستثمارها؛ غير أن مجموعة من العوامل، كالالتزامات المهنية، تسير في الاتجاه المعاكس؛ وهو الأمر الذي يؤدي إلى قضم ساعات من تلك الأوقات، فيصبح الوقت من أعز ما يطلب. ولهذا أضطر أحيانا إلى الاقتصاص من كل الالتزامات والإكراهات، وأقتطع منها ــ عنوة ــ وقتا للقراءة أو للكتابة، علما بأنهما يستدعيان نوعا من التفرغ طلبا للتعمق في القراءات، وسعيا إلى الإجادة في الكتابات.
هل تساعد مهنة التعليم على القراءة والكتابة؟ لا بد من الإشارة إلى مفارقة من نوع خاص ترتبط بتجربتي ــ المتناهية في التواضع ــ في الكتابة، ذلك أن العمل التربوي (التدريس) كان محفزا لي على الكتابة نظرا لما كان يتمخض عنه من وضعيات تعليمية ومواقف إنسانية؛ أو بسبب ما كان يكتنفه من انشغالات نفسية وإكراهات اجتماعية. كل هذه العوامل كانت تدفعني إلى إعمال الفكر والنظر في قضايا تربوية وتدريسية. أما العمل الإداري التربوي ــ وما يستتبعه من أعمال ومهام رتيبة ــ فيرمي بي في دوامة من المشاكل والوضعيات التي تستدعي مني حلولا وإجراءات فورية؛ فضلا عما يترتب على ذلك من استنزاف للوقت والجهد. ولهذا قلما يحفز العمل الإداري التربوي على الكتابة.
إن العمل الإداري التربوي إذا لم يعق قراءتنا وكتابتنا، فلا يمكن أن يصبح عاملا “مساعدا” عليهما. وبين المعارض والمساعد يحتد صراع درامي؛ وهو الصراع الذي تقف الذات القارئة والكاتبة أمامه عاجزة عن مواجهة أكبر المعارضين وأشرسهم ممثلا في “النفس”؛ إنها “النفس” الأمارة بمشاهدة التلفاز والإبحار في العوالم الافتراضية؛ واللوامة على مطالعة الكتب، وتحرير المقالات، وإبداع النصوص. ولهذا يجب الاعتراف أن سبب العزوف عن القراءة والكتابة ذاتي قبل أن يكون اجتماعيا أو مهنيا أو ماديا.
وكيفما كان الحال، فلقد قررت أن أظل وفيا للقراءة مهما يضقْ وقتها، ومقبلا على الكتابة مهما يشقَّ أمرها، ومصرا على النشر مهما يُعرض بعض سدنته.
د. عبد الواحد العلمي