إضاءة:
الإقدام على فتح باب الحوار حول القراءة والكتابة في ظرفية تئن تحت وطأة وباء كورونا، يعد اختراقا شجاعا لطوق هذه الجائحة، وفتحا لنافذة يتجدد عبرها خيط التواصل بين الأحبة لتتلاقح الأفكار وتتجاوب الأرواح وتجود بما ينفع ويفيد بعدما تقلصت نسبة المناسبات الثقافية وانحسر منسوب سواقي النقاش العلمي الهادف؛ وهي وضعية تذكرني بقول الشاعر قديما:
وما بقيت من اللـــذات إلا محادثة الرجال ذوي العقول
وقد كانوا إذا ذكروا قليلا فقد صاروا أقل من القليــــل
- لم القراءة؟
في زمن الطلب المدرسي، كانت القراءة أو المطالعة أمرا مفروضا للنجاح في اجتياز الامتحانات المقررة في نظامنا التعليمي بجميع أسلاكه، ثم صارت خلال عملي الوظيفي رافدا يغني معارفي وأفكاري، ويؤهلني لاجتياز مباريات، ويعينني على إنجاز متطلبات الدراسات العليا (شهادة الدروس المعمقة ـ دبلوم الدراسات العليا ـ أطروحة الدكتوراه)، والمشاركة في ملتقيات وندوات…
واليوم فإن انتقاء المقروء تتحكم فيه رغبة الاستمتاع برضابه، حتى إذا استثمرته فيما أكتب جاء مشرفا لقلمي الذي أحرص على أن يكون مداده نظيفا عفيفا فيما يخطه من نصوص ذات صلة بقضايا المجتمع وهمومه وآماله وأحلامه، وذلك بغية الإسهام ـ جهد المستطاع ـ في إثراء الحقل الثقافي في بلادنا، والارتقاء بمستوى الفكر ودرجة الوعي لدى فلذات كبدنا وعند من يتجاوب مع ما نخطه ورقيا، أو نبثه عبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ عاملا ـ في هذا الصدد ـ بقول الشاعر:
وما من كاتب إلا سيفنــــــى ويبقي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بخطك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه
- كيف نقرأ؟
المداومة على القراءة تفضي إلى الانغماس في متعتها، فبعدما كنت أكتفي بتدوين ما أقتنصه من أفكار سديدة وأساليب رائقة في دفاتر ومذكرات، عملا بنصيحة الإمام الشافعي:
العلم صيد والكتابة قيده قيد صيودك بالحبال الواثقه
بت إبان تحضير دروسي، وإنجاز دراسات أكاديمية، أتوج جولات المطالعة في مصادر ومراجع بجذاذات أدون فيها النص موضوع البحث، وأوثقه، ثم أذيله بتعليق وملاحظات وتنبيهات…
وهنا أستحضر نصيحة عباس محمود العقاد القاضية بوجوب الانتفاع بما نقرأ، وهي دعوة وجيهة لعقلنة عملية القراءة وتسخيرها لرقي الإنسان؛ بيد أني أضيف: كيف ينبغي الانتفاع بما نقرأ؟
إن كيفية الانتفاع بما نقرأ، وبخاصة لدى المنتسبين لحقل التربية والتعليم، هي أن نجتهد في تطوير طرق استثمار قراءاتنا لتجويد تحاضير دروسنا، وإثراء مقرراتنا الدراسية، وابتكار أساليب ترغب المتعلمين في طلب المزيد من المعلومات والمعارف التي تكسبهم مهارات جديدة تنفعهم في حياتهم العملية، وتمكنهم من امتلاك قدرات فكرية ترقى بمستوى استيعابهم للقضايا المحيطة بهم.
- ماذا أقرأ؟
بعدما تحللت من إسار العمل الوظيفي، صارت عملية القراءة أرحب وأفضل مما سبق، ذلك أني أقرأ ما اختاره بكامل الرغبة والحب من كتب تنتمي إلى الحقل الديني وفي مقدمتها القرآن الكريم وكتب التفسير، وكتب من الحقل الأدبي، سردا وشعرا ونقدا، وكتب متصلة بمضمار التربية والتعليم الذي عشت فيه أزهى مراحل العمر، إضافة إلى مطالعة ما يجود به علي الأصدقاء الخلص من قطوف كتابتهم وإبداعهم، هذا فضلا عن مواكبة ما تطالعنا به الدوريات والمجلات والصحف…
- أين تقرأ؟
ابتغاء إقامة توازن بين مجالات القراءة المفضلة لدي، لجأت إلى طريقة تتيح لي إعطاء كل مجال ما يستحقه من وقت، وتيسر لي الاستفادة الجيدة مما أقرأ، إذ عمدت إلى توزيع مواد قراءاتي على أماكن متفرقة في البيت، وبهذه الطريقة ضمنت تجدد نشاطي القرائي، وتنوع زادي المعرفي دون ملل أو كلل. أما مكان الكتابة، فغالبا ما يكون على طاولة المكتب، أو أمام الحاسوب.
- متى تقرأ؟
تحلو لي القراءة في الصباح الباكر، وبعد صلاة العصر، وأحيانا أطالع مقالات صحافية وصفحات من أعمال سردية قبيل الخلود إلى النوم.
ومعلوم أن زمن القراءة ومدته خاضعان لمتطلبات مراحل العمر، والحالتين الصحية والنفسية، فضلا عن كيفية توزيع كل واحد منا غلافه الزمني اليومي.
- أما عن سؤال القراءة والكتابة وتجربتي في الفضاء التربوي التعليمي فأقول:
إن أزهى الأوقات التي عشتها في هذا الفضاء الجميل هي تلك التي تقاسمت فيها متعة القراءة مع تلاميذي وبخاصة لما كنت أكلفهم بإعداد عروض عن كتب منتقاة، وما كان يعقبها من نقاش مفيد، واليوم بعد أربعة عقود، أنظر باعتزاز إلى تلك الحقبة، لما أرى عددا من أولئك التلاميذ والتلميذات غدوا أساتذة في مختلف أسلاك التعليم، وأطرا في ميادين شتى.
وتلك التي سعدت فيها بالتعاون مع نخبة من الأساتذة في مدينة تطوان، على أداء الرسالة التربوية على أحسن وجه؛ وأنت أخي الدكتور عبد الواحد خير شاهد على تلك المرحلة لما كنا نتعاون سواء على تحضير الدروس النموذجية أو إعداد الدروس التطبيقية لفائدة الأساتذة المتدربين، أو تقديم المقترحات والبدائل ضمن الفريق التربوي.
مسك الختام:
وخلاصة القول سيبقى الحديث عن القراءة والكتابة والتربية والتعليم أعز ما يطلب، ذلك أن كل شيء ينفد بالإنفاق إلا العلم فإنه يزكو بالإنفاق، وبخاصة في مجالس من يستحقه.
وسيبقى الحديث عن ذلك كله حديثا متجددا ومستطابا، أو كما قال الشاعر:
ولقد سئمت مآربي فكأن أطيبها خبيــــث
إلا الحديث فإنــــه مثل اسمه أبدا حديث
د. عبد الواحد العلمي