- أشكر الأستاذ الفاضل د. عبدالواحد العلمي على التعريف ب «حالاتي القصصية»، وشجون الكتابة والقراءة، على صفحات «جريدة الشمال» في هذا الحوار.
- القراءة والكتابة شرطان أساسيان لبناء الحضارة، منذ أن عَمرَ الإنسان الأرض، باعتبارهما الدعامتين الأساسيتين للوجود؛ كالماء والهواء والحرية…
س: رحلة الكتابة تبدأ بالكتاب الأول، فما هو أول كتاب قرأته؟
أول كتاب قرأته وحفظته هو القرآن الكريم، ما قبل التعليم الابتدائي وخلاله حتى نهاية الستينيات، تعلمت كتابة الأبجدية (متعلما وحيدا) على يد فقيه فاضل رحمه الله اسمه (نور سي محند)، وكان فعلا نورا في حياتي…
ثم اكتشفت بمشقة – لانعدام الإمكانيات لشراء الكتب – جبران، المنفلوطي، ميخائل نعيمة، كنت أبكي وأنا إقرأ «ماجدولين»، «وعبرات» المنفلوطي ، وأحلق عاليا مع «جبران» مع « الأجنحة المتكسرة» و«النبي» …
س: لماذا نقرأ ؟
أمرنا الخالق سبحانه بالقراءة مخاطبا الرسول الكريم، بأول فعل ( إقرا)،»لنتعلم ما لا نعلم» …
س : كيف نقرأ؟
إشكالية القراءة قائمة، وينبغي الاهتمام بها بجدية في برامج ومناهج التعليم أولا؛ فمنهجيات القراءة التي كانت وما زالت سائدة إلى حد ما، المطالعة والتلاوة…
«تُعلم» المتعلم كيف يَمر بجانب النصوص المدروسة، دون الدخول إلى عالمها الملون، وشتان بينهما و«القراءة الفعلية الإجرائية»…
الأساس الذي ينبغي أن تُبنى عليه «القراءة» ؛ تعليم وتَعَلم المتعلمين «إوَاليَات القراءة» les mécanismes de la lecture »، لأن النص، ولو كان جملة واحدة يتكون من البناء الفيزيقي للعلامات اللغوية والبناء الداخلي السيكولوجي، وينبغي فهمُهما وتمثلهما لإدراك الدلالات والانزياحات المكونة للصور المتحركة التي يرسمها النص، وبصيغة أفضل؛ ينبغي كسر الجوزة للوصول إلى النواة، وتلك هي «متعة القراءة»…
والقراءة أنواع حسب المناهج النقدية الحديثة والقديمة على السواء…
س: ماذا نقرأ؟
كل النصوص التي تفيدنا، تمتعنا، تحركنا، وبكل اللغات، ولكن «الأذواق لا تُعلل» ، والميولات تختلق، والغايات شتى، وللقراء مآرب: يافطات التغذية، ألوان الرقص والموضة…ويأتي السرد بأنواعه، والدراسات الأدبية والنقدية، ودواوين الشعر في المرتبة الأخيرة، في زمان طغت فيه التكنولوجيا الرقمية على المكتوب ورقيا، ولا تُستغل هذه الوسائل بصورة مفيدة «للقراءة»: واستوطنها البخس الرديء من الإنتاج المستهجن…
القاعدة الأساسية لكل قارئ في نظري: هي «انتظاراته»، ومتعتُه التي يسعى إلى تحقيقها؛ تغييرُ وضعه الآني ذهنيا، لتحقيق رغباته وآماله مستقبلا ولو في الأحلام أو أحلام اليقظة…
دور القراءة هو التوعية والتغيير، والحياة كلها سَعْي إلى التغيير، ما زال الفرنسيون المثقفون يرددون عبارة:
«Toute la faute est à voltaire» لأنه وغيره من عمالقة الفكر الفرنسي ساهموا في توعية وتنوير الشباب؛ فاشتعلت الثورة على الكنيسة والتخلف والظلام…
وفي السياق نفسه؛ أثناء ثورة الطلاب في الستينيات نصح المقربون من الرئيس الفرنسي آنذاك باعتقال «سارتر»، رد عليهم:
« Non ; SARTRE c’est la France»
س: أين نقرأ؟
في كل مكان وزمان فيهما نور يُخَول لنا فَك رموز العلامات اللغوية، والتركيز على إدراك «الرسالة»؛ في المقهى، في الحافلة، في الشارع، في الفراش، في البَر والبحر والسماء والأرض…
س: متى نقرأ؟
حين تُلح علينا الرغبةُ في القراءة وتكون هَاجسًا، هَوَسًا، مُكونا داخليا للإنسان، والحافز الأساس للقراءة؛ هو نوعية المقروء، وما يختاره القارئ : حين نقرأ «les possédés de Dostoïevski» على سبيل المثال، لا نتوقف إلا لضرورات الحياة القصوى، ثم نعود لعالَم المؤلف…على عَجَل…
حين أقرأ ما يمتعني أحيا حياة ثانية حقيقية، وحين أتوقف، أعيش حياة بدائية في «مغارة أفلاطون» إلى حين…
س: لمن نقرأ؟
القراءة اختيار حسب الميولات والرغبات والمستوى الثقافي للقارئ، الوَلَعُ بجنس معين، بمسارات فلسفية وفكرية معينة…
الكتابة والفن عموما واقع ومستقبل، كما قال Nietzsche: « Aucun artiste ne tolère le réel»
ولكن في الآن نفسه أكد : A. Camus « la création est exigence d’unité refus du monde»
الكتابة إذن تشخيص للواقع المفروض، ولكنها ترفضه للبحث عما ينقص الوجود الإنساني، بحث عن سلسلة من الممكن والمستحيل، تَجاوُز للمُضْنى، وتحقيق للممكن الذي يوفر المتعة والكرامة والنور والانعتاق من قيود الحاضر الرهيب…
مثل هذه العينة من الكتاب هم الذين يَأْسرونَني، اقرأهم بشغف: نجيب محفوظ، حنا مينة، الطيب صالح، عبد الرحمان منيف، رضوى عاشور…
والنقاد العرب البارزون: شوقي ضيف، العقاد، محمد مندور…والنقاد المعاصرون الذين خاضوا – عن طريق الترجمة- في مجالات السيميائيات وعلوم الدلالة والتأويلية…والشعراء الذين جددوا وطوروا الشعر العربي: السياب، نازك الملائكة، البياتي، عبدالصبور، أدونيس…وغيرهم.
وقرأت وأقرأ عمالقة السرد الروسي:
… Dostoïevski، Tolstoï ، A. Tchekhov A. Pouchkine
والروائيين الفرنسيين:
Camus; Sartre; Proust……، Maupassant
واللائحة طويلة…
أما ما تَعُج به الساحةُ الأدبية حاليا، ووسائل الاتصال؛ مُعظمُه هَذْر مجاني في مواضيع تافهة؛ «صمت هؤلاء أبلغ من لغوهم»…
وما يقال عن القراءة، ينطبق على الكتابة، المطلوب أن تتوفر فيها شروط الإبداع، حسب كل نوع أدبي، وشروط القراءة الواعية العالمة وتتحقق الغايات منها حين تتوفر الأسس اللازمة للإبداع والتلقي…
هل تعد مهنة التعليم عاملا أساسيا مساعدا أم عائقا عن القراءة؟
إذا أهملنا مهنة التعليم، ماتت اللغة والكتابة والقراءة، وتَقَدمُ الإنسان مرهون بدرجات اهتمامه بالتعليم واعتباره من الأولويات، وهو العامل الأساس لبناء الفكر ولحضارة…
يحثنا الله سبحانه على التدبر والتفكير واستعمال العقل والنباهة والعلم: كيف سيكون الإنسان إذا لم ييسر له التعليم هذه الأمور؟
من المفروض أن يكون المعلم أولَ القراء وآخرَهم، لقَبْر الجهل والضلال والأمية، وفتح الآفاق لازدهار وتطور الإنسان…
أما أن يكون التعليم عائقا للقراءة، هذا أمر غير وارد على الإطلاق، إلا إذا كان المعلم مُحَنَّطًا طَغَتْ عليه «الأمية المركبة»؛ هذا أمر آخر، وعاهة منتشرة بحدة في عالم التربية والتهذيب، والقراءة للأسف.
تجربتك في الكتابة، والكتابة القصصية؟
كنت مولعا بالكتابة منذ الصغر، وظروف نموي في القرية ثم في المدينة في العَوَز والحاجة السائدتين في بداية الستينيات ، وانعدام أدوات الكتابة والورق حالت دون تحقيق حلمي…
أخط بأصبعي أو بغصن ميت على التراب، وبالفحم على الجدران، أو الطباشير على اللوح، كانت غصة في حلقي تخنقني لعدم قدرتي على شراء الكتب وأدوات الكتابة…
حتى المرحلة الثانوية بوَجْدة، فُتحت نوافذ لنتنفس منها أنا وبعض أصدقائي ؛ مكتبة البلدية آنذاك، ومكتبة ثانوية عبد المومن العريقة…
أما الكتابة القصصية شأن آخر؛ أنا صامت شارد منذ الصغر، لا أحب اللغو – وإن كنت الآن ألغو – أحب التواصل بأقصر عبارة، وأعاني من الكلام الزائد وأذياله ، وثرثرة التواصل اليومي، أحب أن يُطرح السؤال بدقة واختصار، وأرغب في جواب قصيرا دالا عن السؤال دون الغوص في تاريخه وجغرافيته ونواحيه…
كتبت كثيرا من «الخربشات» كانت نهايتها سلة المهملات…
أول أقصوصة كتبتها في الثمانينيات «الرأس الضخم»، نشرت في جريدة العلم، على صفحة الشباب المعنونة؛ « على الطريق».
أحسست بمتعة لا نظير لها، وكان العرس ضخما في ذهني حين نُشرت على هذه الصفحة…
اخترت جنس القصة القصيرة لهذه الأسباب: التركيز، الاختصار، التكثيف، الحدث الرئيسي الفريد.
ألتقط «ومضة» من الواقع الحي أو الميت، تثيرني، تشغلني، تستهلكني كل الوقت؛ أحياها وأنا أمشي، أشرب قهوتي، في الشارع في المقهى والصحو والمنام…
أركز على الحدث الرئيس؛ أبنيه كلمة كلمة في ذهني، أختار البداية المثيرة لشَد انتباه القارئ والترحيب به في عالمي، تتوالى الأحداث الصغرى ؛ تؤديها الشخصيات أو الشخوص المناسبة بصورة متسلسلة متماسكة، أنقح، أضيف، أحذف، لتصل إلى نهاية غير منتظرة في الغالب، تتشظى ، تشتعل شُهُبا مضيئة، تُحْدث فرقعات متلألئة متناثرة في السماء…
أكتبها بالقلم والرأس والوجدان كائنا حيا أرى أحداثَه ومواقعه، بحَدَب وعطف، أعيد الصياغة كلما أحسست بضرورتها، حتى تستقيم «أقصوصتي الصغيرة» واقفة مزهوة جذلانة حتى ولو كانت مؤلمة دامية، تتباهى بسلاستها وحسن اختيار مواد رسمها، حبلى بالانزياحات والنقد والفكاهة والسخرية الهادفة من « رأسي» وَمَنْ حولي…
كلما رأيت نورا بعيدا في الليل أو النهار آتي منه بقَبَس أنير جوانبَ مظلمة في وجودي، لعلي أصل وجدان «المتلقي» الذي سيجد ذاته أيضا في زاوية من زوايا الوجود المعتم المشترك، لكي لا نموت أنا والقراء المفترضين و«في أنفسنا شيء من حتى» …
لهذا اخترت القصة أو اختارتني، أحب سائر الفنون الجميلة، ولكنها عروسي المفضلة.
لا أفكر ولا أستطيع كتابة الرواية والشعر.
الرواية تفرض النفَسَ الطويل، والأمكنة المتنوعة، والشخصيات المتعددة، وتشابك الأحداث، وتنوع الأزمنة؛ لهذا لا أستطيع مجاراتها، والتنفس تحت الماء…مع العلم أني مًدْمن على قراءة الروايات العربية والعالمية الممتعة…ولن أتوقف…
لا أستطيع كتابة الشعر، تخنقني الزحافات والعلل، والوزن والقافية، ولكنني أعشق الشعر العربي الجميل القديم والحديث.
أحلم بشروق الشمس، أعمل، أقرأ ، استمتع، أتجاوز الواقع الْمُر، حين أريد دخول محراب الفن الجميل أخلع نعلي خارجه: ولما أخرج يُرْعبني الواقعُ والإنسانُ الوَقحَان ، ثم أعود : وأتمنى أن أموت هناك في هذا المعبد كما مات « الجاحظ» رحمه الله تحت كتبه…
د. عبد الواحد العلمي