صدر كتاب “عبد الكريم الخطابي: حرب الريف والرأي العام العالمي” لمؤلفه الطيب بوتبقالت سنة 1997، وذلك في ما مجموعه 121 من الصفحات ذات الحجم الصغير، وذلك ضمن منشورات “سلسلة شراع” (ع. 14). والكتاب تجميع لخلاصات أبحاث المؤلف كان قد نشرها في كتاب أصدره باللغة الفرنسية حول نفس الموضوع، سبق أن قدمناه على صفحات جريدة “الشمال”. وإذا كنا لا ننوي العودة لإبراز القيمة الأكاديمية الرفيعة لهذا النبش العميق الذي أنجزه الباحث بوتبقالت، فإن الهدف من الاهتمام بالكتاب موضوع تقديم هذه الحلقة مرتبط بعنصرين متكاملين في انشغالات الباحثين والمؤرخين المغاربة المعاصرين، أولهما يعكس ضرورات تعريب الدراسات الجامعية وتقديم مضامينها من عموم القراء، وثانيهما يتأثر بروح الاستقطاب العارم الذي مارست حرب الريف الخالدة –من خلالها- سلطتها الرمزية والنفسية والعاطفية على عموم مؤرخي المغرب المعاصر. فالموضوع يظل متجددا باستمرار، غنيا بالعبر وبالدروس التي تتقاطع فيها أمجاد الأمس بإكراهات الراهن، مستجيبا لآفاق البحث التاريخي الوطني المعاصر من حيث انفتاحه على وثائق جديدة واستنطاقه لمظان مصدرية ظلت مغيبة إلى الآن وتجديده للذهنيات وللمواقف المسبقة وللقراءات الممكنة لحدث حروب الريف التحريرية ولسيرة ملهمها محمد بن عبد الكريم الخطابي.
وبخصوص السياق العام الذي تندرج في إطاره مضامين كتاب الطيب بوتبقالت، فقد لخصها الدكتور عبد العزيز خلوق التمسماني في خاتمة الكتاب، قائلا: “حظيت ثورة الريف بدراسات مونوغرافية جادة: اعتبرتها حدثا بارزا في تاريخ المقاومة المسلحة المغربية، وانتفاضة فلاحية نضالية هزت قواعد الإمبريالية الأوربية وأعطت إشارة الانطلاقة لحركة تحرير الشعوب المستعمرة المقهورة في المرحلة العشرينية. في هذا السياق، يقدم الباحث الطيب بوتبقالت في هذا العمل المفيد… صورة واضحة عن أصدائها في الصحافة الدولية المعاصرة لها. يستهل تحليله بتسليط الأضواء على الجهاز الإعلامي الإسباني والفرنسي في المغرب، الذي كان ينطوي على قدر كبير من البهتان وتشويه الحقائق وتزويرها… وهكذا، يتقصى المؤلف مضامين مجموعة ضخمة من الصحف الإخبارية، ويوضح وجهات نظرها وتفسيراتها، موضحا أنها تنوعت بين مؤيدة للحركة الريفية الجهادية، ومعادية لها. وهنا، يورد أمثلة عنها، مبرزا حملة الحزب الشيوعي الفرنسي المناهضة لسياسة القوة في الريف، متحدثا بشكل واف عن الهزة العنيفة التي أحدثتها “إمارة” ابن عبد الكريم في الأوساط السياسية السوفياتية، مستعرضا نداءات الحركات الاحتجاجية الواسعة التي عمت أرجاء العالم ضد سياسة القمع الاستعمارية في الأصقاع الريفية… من جهة، يرى الطيب بوتبقالت أن الصحافيين المناوئين للمقاومة الريفية جعلوها تمردا عشائريا محليا، واعتبروا قيادتها رمزا للعصيان، فرسموا لها صورة قاتمة، وشوهوها في مظاهر سلبية…” (ًص ص. 117-119).
تتوزع مضامين الكتاب بين اثني عشر مادة توثيقية أو تحليلية، إلى جانب الخاتمة العامة للدكتور للتمسماني خلوق المشار إليها أعلاه. في هذا الإطار، اهتم الطيب بوتبقالت –في المادة الأولى- بإبراز السياق التاريخي لثورة الريف، وانتقل –في المادة الثانية- للتعريف بمواقف الصحافة الإسبانية. أما في المادة الثالثة، فقد رصد المواكبات الصحافية التي اهتمت بحقيقة التعاون الفرنسي الإسباني للقضاء على الثورة الريفية، وخصص المادة الرابعة للتعريف بمواقف الحزب الشيوعي الفرنسي من الثورة المذكورة. وارتباطا بهذا الموضوع، اهتمت المادة الخامسة بالتوثيق لمهرجان “لونبارك” الذي نظمه الحزب الشيوعي الفرنسي يوم 17 ماي من سنة 1925 تضامنا مع الثورة الريفية، كما اهتمت المادة السادسة بالكشف عن جهود الحزب الشيوعي الفرنسي لتوضيح حقيقة سياسة التهدئة التي نهجتها فرنسا ضد الأمير الخطابي، الشيء الذي أدى إلى ظهور الأنوية الأولى للتنظيمات الشيوعية بالمغرب حسب ما توضحه المادة السابعة. وفي المادة الثامنة، تتبع المؤلف المواقف الفرنسية والإسبانية تجاه حدث استسلام الخطابي، في حين خصص المادة التاسعة للتعريف بمواقف الصحافة الألمانية من هذه الحرب، وتناول في المادة العاشرة الجهود الاستعمارية لإعادة ترتيب الأوراق وتوزيع الأدوار بين القوى الاستعمارية عقب نهاية هذه الحرب. أما في المادة الحادية عشر، فقد اختزل المؤلف مواقف الرأي العام الإيطالي من تفاعلات حرب الريف حسب ما عكسته صحافة المرحلة. وفي آخر مواد الكتاب، سعى الطيب بوتبقالت لتقديم حصيلة تركيبية لقرار استسلام أمير المجاهدين محمد بن عبد الكريم الخطابي، وذلك على المستويات السياسية والعسكرية والجيوستراتيجية.
وبذلك قدم المؤلف عملا غير مسبوق في مجال النبش والبحث في ذاكرة المقاومة الريفية، بشكل جعله يتحول إلى أحد أكثر الإصدارات العلمية تداولا بين المتخصصين في قضايا حروب الريف التحريرية خلال المرحلة الراهنة. ويقينا إن الباحث بوتبقالت قد بذل الكثير من الجهد عند تجميعه للمادة المصدرية من مراكزها الأساسية الموزعة بين مختلف الدول الأوربية، كما تبدو واضحة أهمية العمل التصنيفي والتحليلي والنقدي والمقارن الذي أكسب الكتاب الاحترام الأكاديمي الذي يفرض نفسه على القارئ. ولعل هذا ما كان يرمي إليه الدكتور عبد العزيز التمسماني خلوق عندما قال في قراءته التركيبية للمضامين: “خلاصة القول: إن د. الطيب بوتبقالت بحث طويلا، فوضع بين أيدينا إنجازا علميا وتاريخيا تضمن أحكاما تثير التساؤلات، تدعونا إلى إعادة النظر فيما كتب عن المجاهدين الريفيين. فعمله يستحق التنويه، لأنه بذل جهودا شاقة في تحليل المقالات الأجنبية النادرة الخاصة بهذه الحركة الوطنية التحريرية التي ظلت –لحد الآن- غامضة في كثير من جوانبها…” (ص. 119-120).
أسامة الزكاري