السيد عبد الله بن محمد بن الهاشمي بن داود الوزاني، من جيل أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ولد بطنجة، ولكن أصله من مدينة وزان. هاجر جده الهاشمي إلى طنجة، وفيها ولد أب الشاعر وتربى على ما يتربى عليه الأطفال في تلك الأزمان، من لزوم الكتاب وحفظ القرآن والمتون الفقهية واللغوية. ولعله درس على والده الذي كان من أهل العلم وخطيبا بالمسجد الكبير وعدلا متورعا.
ولكن الشاعر لم تتح له ظروف الجلوس إلى حلقات الدروس بصفة منتظمة، فعول على تكوين نفسه بالمطالعة الحرة والتثقيف الذاتي، وهذه طريقة سلكها أصدقاوه ومجايلوه في طنجة كالأستاذ عبد الله كنون مثلا.
وعن طريق المطالعة الحرة، خرج من عبد الله بن الهاشمي شاعر موهوب، يبتكر المعاني ويقول في كل الموضوعات. وكان حسب ما عرف به الذين كتبوا عنه مكثرا في قول الشعر.
يقول عنه الأستاذ عبد الله كنون في كتابه ( أحاديث عن الأدب المغربي الحديث ) : ” كان الوزاني أديبا شاعرا مكثرا، ينظم سجية، ويضمن شعره ملحا ونكثا غريبة، مما يلاحظه ويتسقطه من أحوال المجتمع والناس في طنجة على الخصوص …. وكثيرا ما يدخل بعض الكلمات العامية في نظمه، ولكنه مع ذلك، يجيد القول، ويحسن التعبير عما في خاطره من المعاني، خصوصا تلك التي يهتدي لها، ويستخرجها من ملابسات الناس ومواصفات الحياة ”
وقال عنه الأستاذ الشاعر محمد بن عبد الصمد كنون في كتابه ( كواكب النصر ومواكب العصر): ” شاعر موهوب، وأديب محبوب، صاحب نكت لطيفة، وملح طريفة،مجلسه لا يمل، يسلو به الحزين ويبرأ المعتل، يحب السمر، ولا يسأم منه ولا يضجر. ليله نهار، وندمائه نجوم وأقمار. يحسب نحويا، ويعد لغويا، ويبدو أن له في البديعيات القدم الراسخة والمكانة الشامخة.
والحالة أنه لم يقرأ من النحو بابا، ولم يتصفح من اللغة كتابا، ولم يكن له في المحسنات البديعية اطلاع، ولا في ميدان العروض باع، ونقول إنه راوية من عهد الأصمعي وحماد، وهو ليس من أهل ذلك الواد.
وإنما هي الألمعية الفطرية والسجية العبقرية، ينظم الشعر على ما يعرف من أنغام، وموازين ما يحفظ من الكلام. من غير علم بتقاطيع الشعر، ولا تفعيلات الطويل والبسيط وأجزاء كل بحر.
فكلما جادت قريحته بما يجيش في خاطره، قال الشعر منتظما من أوله لآخره، وأتى فيه بنكت حسنة، وتلميحات مستحسنة، لا يبالي أخذها من المتعارف بين الأدباء، أو مما يدور على ألسنة العوام والبسطاء.
ومما خاطبني به لما سكنا بحي القصبة وهو أعلى البلد، ووظفت كاتبا بباشوية طنجة، وهي تقع في القصبة أيضا :
سواك من الأقران في كل ما معنى | سبقت بآداب وكل فضيلة |
على الرأس منها في الوظيفة والسكنى | لذا جعلتك اليوم بلدة طنجة |
وشعره كثير، ولكن ضاع منه أكثر من المتبقى، وبعضه منشور في الجرائد المحلية، كإظهار الحق. وله بعض الرسائل المكتوبة بأسلوب أدبي حافل، وكل ذلك مما غاب عن العيان، ودخل في خبر كان”
كان الشاعر عبد الله ابن الهاشمي الوزاني يعاني في حياته من شظف العيش وقلة ذات اليد. واحترف العدالة في آخر عمره، ولكنه لم يسلم من معاقبة القاضي الشرعي آنذاك العلامة عبد السلام غازي. ومن المفارقات العجيبة، أن الشاعر استقبل تعيين هذا القاضي على طنجة بقصيدة عبر فيها عن فرحه بمقدمه، وارتكب فيها من الغلو في مدحه شيئا كثيرا، ولكنه عندما عزله عن خطة العدالة ، هجاه هجاءا شديدا وموجعا، حتى أنه أنشأ ديوانا شعريا كاملا سماه ” طيران البازي بذم القاضي غازي”.
ويقال بأنه كان هجاءا قاسيا، ولذلك تجنب الكثيرون الحديث عنه. فمن نماذج هجائه، قوله في خطيب لحان، وفي وجهه أثر الجذري:
وجه بهذا يضربون المثلا | اللحن في الحديث كالجذري في |
عجب أن وجهك بالجذري امتلا | وأنت يا خطيب تلحن فلا |
وقال في القاضي غازي الذي أشرت إليه :
عكفت على الضلالة والغواية | أقاضي طنجة عزلوك لما |
وهل تبقى بلا تقوى ولاية | أتطمع بعد ذلك في قضاء |
أما شعره في باقي الأغراض الأخرى ، فسأقدم نماذج منه كالتالي:
ففي غرض المدح؛ قال مادحا مدينة طنجة : ( كتاب رياض البهجة في أخبار طنجة للعلامة محمد بن العياشي السكيرج )
هي في الغرب طنجة الغراء | خير أرض ثوت بها الفضلاء |
ما لها في ارتقا إليها نظراء | مذ حكت جنة النعيم وأضحت |
بخير وقد أجيب الدعاء | من أتاها يقول عمرك الله |
يك بغيرها فتم البهاء | جمعت من محاسن الوصف ما لم |
فقراء الوجود والأغنياء | قد انتها من كل فج عميق |
لقد أجاد الشاعر في مدح مدينة طنجة التي أحبها، ومنحها خالص علمه وأروع شعره. بل شاعريته زادت تفتقا وهو يجلوها عواطف صادقة، جعلته يرى في طنجة خير أرض ثوى بها فضلاء الناس، أرض الجمال يطيب فيها عيش الفقير والغني.
وفي غرض الرثاء؛ يقول راثيا العلامة سيدي محمد السميحي بعنوان ” رثاء فقيد العلم والعمل” : ( جريدة إظهار الحق عدد يوم الإثنين 5 جمادى الأولى عام 1346 موافق 31 أكتوبر 1927)
بدموع تفوق طوفان نوح | نفس من موته السميحي نوحي |
حتى عين الضنين الشحيح | كلا عين جادت به بدر الدمع |
ذا جاء في الحديث الصحيح | يذهب الصالحون الأول فالأول |
سرح الدنيا غاية التسريح | كان شهما وزاهدا ونزيها |
ونصيحا ما مثله من نصيح | كان بالعلم عاملا وتقيا |
وتستمر الشاعرية القوية في الحضور والتألق. هكذا يفتتح الشاعر قصيدته بدعوة النفس للبكاء بدموع تفوق طوفان نوح؛ فكل عين حتى عين البخيل بدمعه قد جادت، وسنة الحياة أن لا بقاء للصالحين. وهو مطلع فخم، بالغ التأثير كعادة القدماء.
وفي التهاني؛ يقول الشاعر مهنئا جريدة إظهار الحق، بمناسبة عودتها إلى الصدور بعد توقف تقني دام أكثر من سنتين: ( جريدة إظهار الحق عدد يوم الثلاثاء 9 ذي القعدة 1344 موافق 18 مايو 1926)
بعود ظهور منه يبتسم العصر | تبدت لنا هذي المليحة تفتر |
بطيب سلام من عرفه النشر | وحيت جميع القارئين فمرحبا |
أياما وعذر الحر يقبله الحر | وتطلب عذرا منها عن غيوبها |
سرور عروس حين تجلى له البكر | فسر قلوب العاشقين لقاؤها |
في هذه القصيدة أيضا ما يظهر شاعرية مدفقة وحس مرهف، وهمة عالية تهفو لكل ما هو مفيد وجليل، ومتابعة محمودة من الشاعر لمختلف أحداث عصره.
وفي التخميسات؛ يقول مخمسا أبيات لحسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كتاب رياض البهجة الجزء الثاني )
وفي محاسن وجهه قد اجتمعت | هذا النبي له أولو النهى خضعت |
لما نظرت إلى أنواره سطعت | محاسن ارتقت في المجد وارتفعت |
وضعت من خيفتي كفي على بصري
محاولة من الشاعر لإظهار براعته الفنية، ومشاركته في مختلف طرائق القول الشعري القديم، لجأ إلى التخميس.
إن دراسة حياة وشعر عبد الله الوزاني، هي في الحقيقة دراسة للحركة الأدبية في طنجة في تلك الفترة. ولم تكن مدينة طنجة آنذاك خارجة عن حالة الحركة الأدبية بالمغرب ككل. فقد كانت تلك الحركة الأدبية موسومة بالتقليد شكلا ومضمونا، لما كان عليه شعراء العهد القديم من التزام قوالب في مضامين المدح والرثاء والمناسبات الاجتماعية والوصف والغزل، وتخميس القصائد وغيرها من القوالب التي نقرأ عنها ولم يستطع الشعراء في المغرب حتى بداية القرن العشرين التخلص منها، غير فئة قليلة هي التي قادت سفينة التجديد، بعد أن هبت رياح التجديد في الشرق العربي، وولع الكتاب والشعراء بمطالعة الدواوين الجديدة والمجلات الأدبية والاطلاع على كل جديد في هذا الميدان.
أما قبل ذلك، فقد كانت الحركة الأدبية في المغرب مشحونة بزخم الماضي نتيجة النغلاق الفكري والسياسي، الذي فرضه المغرب على نفسه خوفا من الاحتلال الغربي، وتخوف رجال الفكر والسلطة من كل ما هو غريب عن محيط المغرب وبيئته.
وفي طنجة، كان المجتمع المتخلف يضغط بعوائده وأفكاره، ولم يكن أمام الحياة الفكرية إلا أن تعيش على الماضي. والذين استطاعوا الخروج عن المألوف هم قلة قليلة، يرجع لهم الفضل في إنعاش وبناء تفكير طبقة من الأدباء الشبان بعد الثلاثينيات.
إننا عندما نقرأ النصوص الشعرية للشاعر عبد الله الوزاني، ندرك أن الرجل أفرغ طاقته الإبداعية في مجال لا نقول عنه إنه غير ذي جدوى، ولكن لو صرف طاقته الإبداعية إلى الشعر الحقيقي الذي هو ضمير الشعب، كما يقال لكان ذلك أكثر إفادة.
ولكن شاعرنا لم يخرج عن مألوف العادة آنذاك من مدح فلان، ورثاء فلان، وتهنئة فلان، وتخميس قصيدة فلان ؛ ومع ذلك فقد أبدع في تلك المضامين ولمس واقع المجتمع. ومهما يكن من أمر فإن هذا الشاعر كان مرآة للحركة الأدبية في بلدته طنجة، وصورة مصغرة من الصورة الكبرى، لواقع الحياة الأدبية في المغرب عند بداية القرن العشرين.
وبعد هذه اللمحة عن شعر السيد عبد الله بن محمد الهاشمي الوزاني، أعطي صورة أخرى لنثره، وذلك بعرض نموذج منه عبارة عن رسالة أدبية وجهها للأستاذ المؤرخ محمد داود، بمناسبة إصداره للعدد الثاني من مجلة السلام سنة 1933، وهذه الرسالة أشبه ما تكون بأسلوب التقريظ الذي كان شائعا بين كتاب تلك الفترة.
تقول الفقرات التي اخترتها من تلك الرسالة: ” إن أحسن زينة تحلت بها وجنات الطروس، وسعى لخدمتها جمهور اليراع على الرؤوس، سلام تفتحت بنسماته رياض المحبة والوداد، وتعطرت بنفحاته أزهار الإخلاص والاتحاد. نخص بذلك جهينة أخبار العلوم والعرفان، وسحبان الفصاحة والبيان، ومفشي السلام المحمود، السيد محمد داود. أما بعد …. فقد قرأت السلام، فغذيت الروح بما فيه من نفيس الكلام، وظهر لي في عالم الأدب بمظهر من الجمال، بديع الكمال، يتحلى بوشيه التطواني الحسن الرفيع، وأسلوبه الأندلسي الرفيع ….فما هو إلا غذاء الألباب، وتحفة الأدباء والمنشئين، وسلوة الفقهاء والطلاب … فشكرا لك يا رئيس السلام، المناضل عن العروبة والمدافع عن الإسلام ….. ”
وهكذا، لا يخفى على كل باحث الأسلوب البديعي المسجوع في هذه الرسالة، وهو الأسلوب الغالب على النثر المغربي وقتئذ، قبل أن يعرف طريق التحرر من هذه المحسنات المتكلفة، والتي يحاول الكاتب من خلالها إظهار مقدرته اللغوية، على يد الأستاذ عبد الله كنون وغيره من أدباء العصر المجددين.
توفي الشاعر ابن الهاشمي الوزاني عن سن عالية، وذلك عام 1362هـ / 1943م.
دة. نبوية العشاب