لا تزال إشكالية عدم تنفيذ الأحكام القضائية النهائية الصادرة ضد أشخاص القانون العام، على عتاقتها، تطرح عدة إشكاليات وإكراهات على الشأن الحقوقي بالمملكة وعلى المواطنين بشكل خاص.
فالمتقاضي الحاصل على الحكم الحائز لقوة الشيء المقضي به، لم يلج القضاء إلا لاستخلاص حقه من الإدارة المتعسفة. وعدم تنفيذ هذا الحكم ـ بكل ما يحمل من قوة وحجية قانونية ـ هو مساس بالأمن القضائي الذي يرخي بثقله على هيبة الدولة.
ويتمظهر هذا التعسف والإجحاف سواء في التأخر في أداء المستحقات المحكوم بها لسنوات طويلة جدا، أو في عدم التنفيذ الناتج عن صعوبات تجعله في حكم الاستحالة القانونية أو الواقعية.
ونشير في هذا الصدد إلى أن معضلة عدم التنفيذ تتقاطع فيها عدة إشكاليات، فالإدارة الممتنعة عن التنفيذ تكون في حالة صعوبة تحول دون مباشرته. وهذه الصعوبة إما تكون مالية لعدم توفر الاعتمادات في الميزانية وإما قانونية كعدم إمكانية تنفيذ حكم يقضي بإرجاع موظف لمنصبه بسبب توظيف شخص آخر محله..
وأمام هذه الصعوبات، اقترح الفقه القانوني والقضائي عدة حلول لتجاوزها، لكنها رغم تعددها وجودتها، مازالت قاصرة على تحقيق حل جذري متكامل.
الحجز على أموال وأملاك الإدارة الممتنعة عن التنفيذ
يعتبر هذا الحل ذي الأصل المدني، كإجراء يتم العمل به في مواجهة الإدارة الممتنعة عن التنفيذ، سواء عن طريق حجز المال من حساب الممتنع عن التنفيذ من الخزينة العامة، أو عن طريق الحجز القضائي لممتلكاته.
وقد طرح هذا الإجراء نقاشات طويلة، بين محرم للحجز بدواعي ضرورة الحفاظ على استمرار وسيرورة المرفق العام وبين مناد بالتمييز بين الممتلكات الضرورية لسير المرفق والممتلكات الأخرى التي تكون في حوزة الإدارة كالأملاك الخاصة..
ونسجل في هذا الصدد، النقاشات التي أثيرت مع المحاولات السابقة لمشاريع قوانين المالية في منع أي حجز على أموال وممتلكات الأشخاص العامة، وقد صاحبتها انتقادات قوية، كان أهمها كون محل مثل هذه المقتضيات هو قانون المسطرة المدنية وليس قوانين المالية، لأن الإشكال أكبر من حله عن طريق سن المنع دون إحاطته بمعالجة بنيوية ممتدة على باقي مظاهر الإشكال.
الغرامة التهديدية للجبر عن التنفيذ
يتم العمل بها لمواجهة تماطل الإدارة في التنفيذ، على غرار ما يحدث في القضايا المدنية، حيث بموجبها يعطي القاضي للإدارة مهلة للأداء تحت طائلة غرامة مالية.
وإن كانت هذه الوسيلة فعالة، إلى حد ما، في إجبار الإدارة على أداء المستحقات القضائية، إلا أنها تبقى محدودة الجدوى، أولا، لعدم شيوعها إلا بين أوساط تتسم بالقدرة المادية والعلمية على تتبع واستكمال الإجراءات المسطرية المعقدة والطويلة. وثانيا، لعدم اتفاق القضاة على نجاعتها وجدواها، إذ يعتقد البعض أنه إذا كانت الإدارة عاجزة على تنفيذ حكم في ذمتها المالية، فكيف يعقل أن نثقل ميزانيتها بالمزيد من النفقات.
تحريك مسؤولية الموظف الممتنع عن التنفيذ
أثارت إمكانية تحريك مسؤولية الموظف الممتنع عن التنفيذ نقاشا حادا بين أوساط الفقه القضائي، حيث تقضي بتحمل الموظف المكلف بالتنفيذ عواقب عدم تنفيذه، وكأن الأمر بيده ومتاح له ويتعلق فقط بتعنته وعدم استجابته.
ونعتقد أن هذه المسألة، وإن كانت ستجد لها محلا في قضايا الإلغاء والأحكام القضائية القاضية بتغيير المراكز والوضعيات القانونية، فإنها تحمل تعسفا بالغا في قضايا التعويض ـ صاحبة الراهنية ـ خاصة إذا علمنا أن الإدارات العمومية، تسير بميزانيات سنوية، ولا دخل للموظف أو الآمر بالصرف في عدم برمجة مبالغ كافية في توقعات الميزانية.
وبالحديث عن الميزانية، لا بد أن نشير إلى أن إدراج نفقات مخصصة لتنفيذ الأحكام القضائية أمر إلزامي، إلا أنها لا تكفي في الغالب لسد نفقات الأحكام القضائية التي أصبحت في تزايد مستمر.
آفاق التجاوز والحل
لا غرو أن رجال الفقه والقضاء والقانون عاكفين على تقديم تصورات ومقترحات في حل المعضلة وقد عرفت سيرورة الحل عدة محطات كانت لها آثار وامتدادات متباينة.
وفي سبيل إيجاد الحلول، وتجاوز هذه الإشكالية العميقة للدولة ومؤسساتها، قامت المحكمة الإدارية بالرباط، في خطوة محمودة، بتوقيع اتفاقيات مع مؤسسات ومرافق عمومية من أجل التنفيذ، الأمر الذي سمح بالفعل بنفاذ عدة أحكام وقرارات قضائية.
وعلى الرغم من المزايا، فإن الأمر يبقى متوقفا على رضائية وتعاون الأشخاص المدبرين للإدارات، وبالنظر لحتمية تداول الأشخاص على المسؤوليات، نجزم أن الوضع يحتاج لحل وتدخل مؤسساتي، قائم على شرعية قانونية كافية لنفاذ القوة والحجية القضائية، مع ضمان استقلالها التام.
وفي نفس السياق، ينادي بعض القفه بتبني الحل الفرنسي القائل باعتبار الحكم الحائز لقوة الشيء المقضي به بمثابة أمر بالصرف، لا يحتاج إلى سند تنفيذي لتطبيقه.
ومن وجهة نظرنا، نعتقد أن هذا الإجراء لا يتيح أفقا حقيقيا لحل المشكل، فمن زاوية تحصيل الحاصل؛ إن كانت هناك اعتمادات مالية متوفرة لتنفيذ الحكم القضائي، ما كان هناك مشكل في التنفيذ من أصله، اللهم في بعض مظاهر التعنت الناتج عن حسابات ضيقة للقائمين على الإدارات، ولكنها تبقى حالات محدودة ومعزولة جدا.
ونشير هنا إلى أن بعض الإدارات العمومية تعمد إلى تقسيط أداء المبالغ المالية عند تنفيذ ما بذمتها، وهي خطوة لا بأس بها إذا توفر الرضى والصبر للمحكوم له، مع العلم أن العدالة تقتضي أن يستخلص ماله بمجرد صدور الحكم.
وفي اعتقادنا، نعتبر أن استباقية الإدانة القضائية، عبر احترام الشرعية في جل ـ حتى لا نقول كل ـ الأعمال المادية والقانونية للشخص العام، هو أفضل حل جذري للموضوع. وإن كان هذا الأمر مستبعد واقعيا، فإننا في هذه المناسبة ننادي بالاجتهاد في ذلك، وحجتنا أن العمل غير المشروع يشكل تعسفا على حقوق أو حريات المواطن، ما يضطره إلى سلوك سبيل القضاء كرها وجبرا، ثم وبعد مسار عسير بين ردهات المحاكم ودرجاتها، يحصل على حكم ينصفه إلا أنه لا ينفذ، ما نعتبره تعسفا مضاعفا عدة مرات على المظلوم وعلى المبادئ والأسس الدستورية من زاوية حقوقية.
ونقترح لحل هذه المعضلة، إنشاء صندوق يكون بمثابة هيئة وسيطة بين الإدارات العمومية والمنفذ لفائدتهم والخزينة العامة للمملكة، يعهد له بتصفية الذمم المالية الحالية بداية، على أن يتم تحيينها كل سنة عبر برمجة اقتطاعات موازية من الميزانيات اللاحقة لكل شخص عام.
وسيسمح هذا المقترح، بتجاوز العيب القانوني الجسيم المتمثل في عدم تنفيذ الأحكام القضائية الماس بهيبة الدولة، وباستخلاص حقوق المواطنين من تعسفات الإدارة وإنصافهم، ثم جعل الإدارات أمام حتمية التنفيذ المقتطع من الميزانية، الأمر الذي سيجعلها تحسب تصرفاتها وتتقيد أشد ما يكون بالمشروعية.
أمل عكاشة