لقد عرف الإنسان، منذ نزوله إلى هذه الأرض، حقيقة أن الموت أمرٌ واقع و لا مفر منه، ومع يقينه بهذه الحقيقة الثابتة و ضرورة حصولها في كل الأوقات و جميع الأماكن، فإن الإنسان اعتاد الشعور بالحزن و الإحساس بمشاعر الأسى في كل لحظة يعلم فيها بخبر انتقال الواحد منا من عالم الحياة إلى عالم ما بعد الموت، لكن الأمر يصبح أكثر جلالة و رهبة، حين نعلم أن الراحل إنسان تجمعت لديه كل معاني الإنسانية و جميع المثل الأخلاقية المتوجة بالحب و الرحمة إنه الرجل الذي كان، و سيظل، علماً خالدا من أعلام هذه المدينة ذات البحرين و أيقونة لا ينال من بريقها تعاقب الأزمان و توالي الأحداث، إنه الفقيد محمد العربي بوراس.
حين أُعْلِن خبرُ انتقال الرجل إلى رحمة الله، بعد فترة صراع مع المرض، أصيب الجميع بصدمة حزن مباغتة، و تضاعفت مشاعر الأسى و الكمد لتصل أعلاها حين تحققت وفاة الرجل بعيدا عن مدينته التي أحبها و أحب ناسها.
لقد كان “السي العربي” رحمة الله عليه و رضوانه، إنسانا بمقاييس كل الأزمنة و الأماكن، إلى درجة يمكن معها القول بأنه تجسيد فعلي لمعاني الإنسانية و ترجمة معصومة لمعاني الخير و مناصرة الضعيف، فالرجل تملكته غريزة محبة الخير و بذله دون تردد أو اعتراض، و كانت فطرته سليمة إلى أبعد الحدود، تلك الفطرة التي ألهمت نفسه بنبتة الخير في قلبه، فكان لذلك منبعا للرأفة بالمحتاج و حصنا للذود عن الضعيف، لا يميز في فعله بين هذا و ذاك، ولا بين الصادق و الكاذب، ولا بين الشريف و لا الحقير، فحب الرجل للخير و إتيانه، تمليه عليه الفطرة الإنسانية السليمة من علل التفاخر و التباهي، و الناجية من أسقام التكبر و التعالي، فالرجل كان متواضعا دون إسفاف و كريما بغير حدود، و ظل على أخلاقه تلك رغم تبدل أحواله و تراوحها بين الشدة حينا و الرخاء في أحيان أخرى، فظلت يده على الدوام منبعا للخير و الحب.
في واحدة من آلاف الوقائع التي تشهد لفقيد مدينة البوغاز، رحمة الله و رضوانه عليه، حكى لي أحد الزملاء بالجريدة أن الراحل شارك يوما في جنازة رجل حيث كان الدفن بمقبرة المجاهدين بطنجة، و حدث أن “السي العربي” كان يقف عند جدار المدفن، متأملا في فلسفة الحياة و الموت، فشاهد في المكان بقلبه، قبل عينه، كيف يكافح رجل ستيني وهو يجر عربة أسماك، باحثا عن مشترين لها، فجأة تقدم السي العربي، الذي كان أبرز رجال مهنة الصيد، بابتسامته المحبوبة نحو الرجل سائلا عن أحواله و أحوال تجارته، أجاب الرجل، لكنه لم يعتقد أبدا أنه العربي سيعقد معه صفقة مربحة، فقد اشترى منه البضاعة عن آخرها بسعر البائع، لكن ليس لنفسه، فقد طلب منه أن يفرق كل ما اشتراه منه من أسماك على فقراء “المجاهدين”، ليمضي بعدها الراحل دون أن ينتبه باقي المعزين لما صنعه. بهذا القدر العالي من أخلاق الكرم و التواضع التي ميزت السي العربي طول حياته، فإن الله عز وجل لا شك أنه يقصد رجلا مثله حين قال في كتابه الكريم “وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً”.
إنه عزاء واحد في رجل اسمه السي محمدالعربي.