استهلال:
هل استنفذ “عبداللطيف بن يحيى” جميع أوكسجين طنجة؟
مستعيرا قول الروائي”يوسف إدريس”: “إن الأوكسجين الموجود في العالم العربي لا يكفي كاتبا واحدا”.
مبرر هذا السؤال، الإصدار الجديد لــــــ”عبد اللطيف بن يحيى”والموسوم بـــــ”إشارات الياقوت”، جاء خلوا من أي مؤشر جنسي أو إشارة إلى أنواعية المنجز.
ولإزالة الكثافة الحاجبة التي يشكلها المتن، سنستعين ببعض الأدوات المنهجية، لفك شيفراته الملغزة، وإزالة لبس اختلاط الأنواع أو اجتراح أنواع جديدة .
وإضاءة مساحة مظلمة عن المرجعيات الثقافية للكاتب ومحاولة استنطاق مثنه”إشارات الياقوت” أمام غياب مثنه العام.
- في النص المحيط لـــــــ “إشارات الياقوت”:
يظهر من مجموع عناصر الغلاف، غياب العبارة التجنيسية أو المؤشر الجنسي؛ وفي محاولتنا للإجابة عن تساؤلات كثيرة، سنعمل على استكناه الأبعاد الظاهرة والخفية لمجموع عناصر “المناص”.
هناك إشارة يتيمة في (ص4) وثنية الغلاف الخلفي عبارة “الشاعر”، تنم على أن الكاتب يبدع ضمن جنس الشعر، كما يمكن التقاط إشارات أخرى، حينما نرى صدور ديوانين متباعدين زمنيا:
- أعاصير الحزن والفرح 1973
- الأسوار 1984
- إشارات الياقوت 2019
إلى ماذا يلمح /يشير الكاتب أمام غياب هوية تصنيفية للنص؟ ما المقصود بهذا التضليل التجنيسي؟ هل يمكن اعتبار “العنوان هوية للنص والتميز له عن باقي النصوص”؟ كما يقول بارت.
- في هوية “إشارات الياقوت”:
متى كان النص يمارس ضغطه على القارئ، تكون الاستجابة ضاربة في التشويق والإثارة، وهذا ما صرح به”ليسنغ” حيث يقول:”ينبغي ألا يكون العنوان مثل قائمة الأطعمة، فعلى قدر بعده عن كشف فحوى الكتاب تكون قيمته”.
إن نص “إشارات الياقوت” نص مفعم بالمعنى، ولا يضطر إلى الإعلان عن هويته إلا بعد إتمام الإشارة المائة، «فالإشارة أخفى من خفاء الرمز”، ولا تعطي معناها من أول نظرة.
قالت لي:
- إذا سلكت إلي
وركبت وهمك أنك السالك
فأنت هالك..
وإذا عبرت بزهدك في اشتغالي بك
وبزهدي في انشغالك
أكن لك. ص 152
لا يمكن العبور إلا بالاتحاد بالنص وبالفناء فيه وفيك.أما أن تكون السالك دون إمام تهتدي به، فأنت هالك عن إدراك المعنى الحقيقي للتجليات.
إن المعاناة والمكابدة التي يعانيها الكاتب، تربأبنفسها عن الانصياع إلى تصنيف تجنيسي، إنها تحاول الترفع عنه وخلق عوالم إبداعية أكثر إشراقا وصفاءً مما هو عليه،أليس الشعر رؤيا ممتعة تعبر عن حالات انفعال الوعي البشري.(1)
وقالت لي:
- لا تلمني
إذا اختفى مني ظاهري
ورحلت
حتى يتوحد ظاهري بجوهري.
وأنا لروحك
ولست لقلبك
وأنا لجوهرك
ولست لظاهرك. ص 58
إنه نص مخاتل يحتفي بالروح وبالجوهر، يعبر عن أعماق وأسرار”لا يمكن العبارة عنها على التحقيق، بل تعلم بالمنازلات والمواجيد”(1) وتفهم عن طريق الذوق والكشف.
إن إشارات “عبداللطيف بن يحيى” متمنعة وصعبة المراس، وتتأبّى عن الانقياد والانصياع للحدود والخصائص المائزة للجنس الأدبي.
- في التجليات:
لقد ابرم الكاتب عقدا مع القارئ بإعلان هوية إشارته أنها”تجليات”.”فتركت للقارئ مهمة تخير التصنيف الذي تمليه عليه قراءته الواعية بقوانين “تشكل الأنواع” “(2).
قالت لي:
- الحبيب من أصابك بالبلوى
وليس من أغراك بالسلوى
والمولى من جافاك
وليس مولاك من عافاك. ص 54
يبدو النص في عمقه، يشير إلى تكسير بنية ما.تكسير “سمت” واستبدال بدائل ببدائل”(2)؛ استثمار أفق لغوي أكثر كثافة وإيغالا في نحث نهج “ذوقي” مغاير، مبني على التناقض،
أليس الحبيب من أصابك بالبلوى؟
أليس المولى من جفاك؟
فالحبيب هو من يتكشف/يتجلى لك في خضم غير موسوم بالرتابة والهدوء، بل سلواه في ابتلائك بعدوى الحب و”العرفان”؛ والمولى من كانت معافاته في جفائك للشهوات والملاذ وخرق العادات(3)، خرق قائم على”التضليل التجنيسي” والعمل على محو الحدود:
- من —– الذات: لا تطلبني في الصحو
لأن صحوك ابتلاء بغيري. ص7
- إلى—– الروح: سيرميك الصحو في الغياب
فادخل من باب الحيرة
إلى حضرتي
لأنك في صحوك لن تراني ص46
تضليل يتغيا إدراك “الإشارة المدفونة في العبارة” كما قال أبو حيان التوحيدي؛ ويجعل البوح مغامرة محفوفة بالمخاطر.
إن “الصحو” يستدعي حضور وسيط، لا ينفك يجادلك حول الفهم الحقيقي لمعنى النص، “سيرميك الصحو في الغياب”، غياب المعنى الحقيقي لقصدية الإبلاغ مع التأثير…
فباب الحيرة مشحون باللذة والثراء والتعقيد والتوتر”الذي يجعل نصا ما في مواجهة قصوى مع الترسيمات التي تضع الحدود”(4)
قالت لي:
- الفهم انحباس المعنى في اليقين
والوهم شرود الفهم في المعنى
فاطرق باب الاحتمال
أكن دليل حيرتك ص61
- أهذا كل ما هنالك؟ على حد تعبير ر.بارت:
كيف يمككنا بهذه الإلماعات والإضاءات القصيرة، والتي تمدنا بإشارات حافلة بالتجارب الدالة أم نتركها تنساب وبسهولة؟أليست “الشذرة” ومضة منكسرة، وقطعة من”كلّ” كما يحددها معناها الإيتيمولوجي؟(5)
أصبحت “الشذرة” نقطة تقاطع بين الشعر والنثر(6)، فمنطقها هو تذويب الحدود والتمرد على القيود والقواعد(7) والانفلات من كل تحديد، لأنها دائما منذورة للتماهي؛وطموحها نشدان غياب النوع أو الخضوع لمقتضياته(7).
كما أن هذا “الشكل الأدبي” يرفض التعامل مع كل ما هو متداول ومتوقع؛ إنه مغامرة في اتجاه القلق والخلخلة وصدمة اليقين.
1.4- نصوص “إشارات الياقوت”تخلو من العنونة الداخلية، وهو ما يربك مهمة الولوج إلى عالم النص،
ويجعل مهمة التحليل والتأويل على مستوى كبير من التعقيد.
إذ اكتفى بالإشارة ورقمها، محتلة مكانا وسط الصفحة، تكرس لغة الصمت ومتابعة الإشارات، أن “إشارات الياقوت” لن تنتهي إلا في حدود الإشارة المائة؛ ومجموعها يشكل النص الأكبر.
كما تتراوح مجموع الإشارات المائة بين الطول والقصر؛ فالإشارة الأولى تتكون من خمسة اسطر ومقطع واحد، ابتدأ بعبارة حوارية: قالت لي.(8)
أما باقي الإشارات تحتوي على مقطعين أو ثلاث، ومجموع أسطر بين 4 و5 و6،؛ وكلما كان المقطع قصيرا، كلما ارتفع منسوب التكثيف به.
وقالت لي:
- اطلبني بالإشارة
ولا تطلبني بالعبارة ص30
وقالت لي:
- بداية بدايتي فيد انتهاء
ونهاية بدايتي اشتهاء ص18
هكذا يتحدد”نظام الشذرة” عند “عبداللطيف بن يحيى”، ليغدو أسلوبا ينضح بالمعنى ويلامس حدود اللامفكر فيه”بعناصر تقوى على التقاط التوتر والحيرة…والعبور نحو اللامعنى”.(8)
ولعل تكثير الإشارات ضمن العناوين الفرعية، يحاول إلغاء”منطق العقل والنظر”(9) وتكريس” منطق الذوق والكشف”(9) وما” لا ينتهي لا يُعبر عنه إلا بما لا ينتهي”.(9)
وقالت لي:
- الرؤيا جسر إشارتي
وقنديل متاهاتي
فادخل إلى رحاب المعنى
ولا ترتجي مني خلاصا
حتى تفنى. ص15
2.4- إن نص “إشارات الياقوت” ينزاح في مناصه عن أصول العنونة وتحديداتها، و”لسبب من الأسباب أهملت الثقافة العربية القديمة مسالة العنوان في الشعر…ومع ذلك عُوض… بصيغ بديلة تنهض بوظيفة مشابهة”(10).
أما الآن فقد “أصبح على الدارس أن يراعي وظيفة العنوان في تشكيل اللغة الشعرية، ليس فقط من حيث هو مكمل ودال على النص،ولكن ايضا من حيث هو علامة لها بالنص علاقات اتصال وانفصال معا”(10)
وقد اقترح رشيد يحياوي في كتابه ثلاث أبعاد لدراسة العنوان:
1) تجاور العناوين: البحث في العلاقات التي تجمع عنوانا مل بمجموعة عناوين…
2) نصية العنوان: نتوقف عند العنوان في ذاته لنرى كيف صاغه…
3) العنوان والنص:فهو ذاك الذي ننظر فيه كيف يتصل العنوان بالنص الموالي عارضين الصيغ التي بواسطتها يتعالق الطرفان.(10)
أمام كل هذه الاقتراحات، نجد أن نص “إشارات الياقوت”نصا منفلتا ومنسابا عن كل هذه التأطيرات والنمذجة، لأنه نص يتغذى على “اللانظام” وعدم التقيد بنظام معين، سواء في تناسل الأفكار أو الخضوع لرتابة الحياة.
تتكون كل الإشارات المائة من مجموعة من المقاطع/الشذرات، منتظمة ورقيا، ومترامية في “اللانظام”تكون في حد ذاتها مشروعا”عرفانيا” يغوص في “التبديد” و”التقطيع”.
ولا يعني التقطيع الخروج عن النسقية، بقدر ما يعني بناءها لنسقها الخاص، القائم على علاقات خفية(11)ترصد العالم في تمزقه، التقطها الكاتب بكلمات بعيدة عن مرجعيتها.
وقالت لي:
- سأحجب عنك المعنى
في مكنون إشارتي
فباب المعنى
عصي عليك وعليّ
والإشارات دوائر المعاني. ص29
3.4- ينطلق كل مقطع في”إشارات الياقوت”من صيغة “قالت لي:” ليدخل في لعبة حوارية يتضخم معها المعنى ويتعصى،حسب شكل كل مقطع،كما أشرنا سابقا، من حيث الطول والقصر على صدر الصفحة؛ وقد تبدو هذه المقاطع متباينة عموديا، ولكنها متقابلة أفقيا:
المقطع الثاني من الإشارة 2 (يقابله) المقطع الأول من الإشارة 24
المقطع الأول من الإشارة 6 (يقابله) المقطع الأول من الإشارة 16
الإشارة الثانية – المقطع الثاني الإشارة الرابعة والعشرون- المقطع الأول
قالت لي: قالت لي:
-أنا زيت مصباحك – انزع فتيلك من قنديلك
وفتيل جراحك فأنا زيت قنديلك
فكن دليلي إليَّ. ص8 وأنا الفتيل
لتكون أنت قاتلي
وتكون القتيل. ص37
اكتمال التكوّن والصعود في سلم المعراج ومن مقام إلى مقام(إشــ 2 مقـــــ 2) المصباح وهو جزء من القنديل يتغذى من فتيل الجراح، يمتح طاقته من زيت معجونة معاناة وأنينا وتشتتا، وعند الاكتمال يظهر فعل الأمر(انزع) فتيلك من قنديلي: ويظهر أن المصباح أصبح قنديلا وهو دلالة على الاكتمال لأن القنديل أعم من المصباح؛نظرا لاكتمال التوحد بين الزيت والفتيل رغم أنهما ذاتان، أصبحا ذاتا واحدة تشعّ نورا وهو يلمّح إليه بـــــــ(القتل) في معناه الإشاري: النور مصدر اتحاد المصباح والقنديل…
والملاحظ أن الإشارات/المقاطع هي نصوص ترسم طريقا ذات بعدين: غما قراءته منفردة باعتبار ماهيتها، أو قراءتها في ترابط مع بعضها البعض كما اشرنا أعلاه.وهذا النوع من التسلسل الدلالي قد يبدو متمنعا على القارئ العادي الذي ينشد وضوح المعنى والحفاظ على مجموع الإمكانات التيماتيكية، التركيبية، والرمزية… وهذا ما يرفع من قيمة الإشارة التي جاءت بديلا عن قصور اللغة الوضعية .
5- على سبيل الختم:
نص “إشارات الياقوت” نص ماتع، يستحق أن يندرج ضمن النصوص ذات لغة ونظام خاصين.
وقد تعاملنا بحذر شديد، وبنظرة حريصة على تجاوز إسقاط المفاهيم كيفما اتفق. والملاحظ كذلك أننا لم نلصق عليه يافطة المؤشر الجنسي، وإنما تركناه ينضح بما فيه، ومما سقناه أثناء سيرنا الحثيث في دروبها مجرد ملاحظات برانية، كلما حاولت الولوج إلى داخله أخاف الاكتواء بلهيبه.أليس هي من قالت له:
قالت لي:
- صمتي
سيعفيك عن إشارتي
فتخلص من سمعك
حتى تسمعني
وتخلص من عبء حرفك
أكن مشكاة كهفك. ص140
كما أنني لم أحاول تصنيف إشاراته ضمن العرفان الصوفي، من أول نظرة، وإن كان المعجم هو كذلك.فليست الكلمات هي من جعلت إشاراته حبلى بالدلالات، وإنما هي مجموع رؤيا الكاتب/…؛ والملاحظ والذي لم أتطرق إليه، هو أن “عبداللطيف بن يحيى”قليل الإصدار، فهل يُعدّ ممن قال فيهم الجاحظ:
“…عبيد الشعر، وكذلك كل من يجود في جميع شعره ويقف عند كل بيت قاله، وأعاد فيه النظر، حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة”
الهوامش والمراجع:
- انظر: الرمز الصوفي … أسماء خوالدية ص 27 وبتصرف
- الشعري والنثري – ص36 رشيد يحياوي
- روضة التعريف بالحب الشريف ص339
- الكتابة والتصوف عند ابن عربي ص112 خالد بلقاسم
- La modernité , esthétique et pensée du fragmentaire — Sébastien Rongier
- Poétique du fragment : une apparece du soupirail de jacque dupin – Seiji Marukawa
- أنظر: الكتابة والتصوف ص 202
- في مسالة النوع الأدبي ص 117 مصطفى الغرافي
- انظر: الكتابة والتصوف ص204 و ص207
- انظر: الرمز الصوفي ص30،29
- الشعر العربي الحديث دراسة في المنجز النصي ص 107- 110- 111 رشيد يحياوي
- انظر: الكتابة والتصوف ص 223