هل يمكن كتابة حلقات التاريخ الثقافي الراهن لمدينة شفشاون بدون العودة المتجددة للتأمل في رصيد منجز الشاعر عبد الكريم الطبال؟ وكيف يمكن قراءة قصيدة هذه المدينة بدون استلهام إواليات الكتابة لدى الشاعر الطبال؟ وماذا وقع حتى تحول اسم هذا الشاعر إلى مرادف لصفاء ألوان شفشاون ولرائحة شفشاون ولجدران شفشاون ولوجوه شفشاون؟ وفي المقابل، كيف يمكن تفسير سر كل هذه السلطة التي مارستها المدينة على نزيلها لدرجة التماهي؟ وكيف نجح هذا التماهي في خلق الازدواجية التي لا انفصام فيها بين الذات العاشقة وبين حضن السكينة الآمن؟
أسئلة متناسلة، يثيرها الاستنطاق الأخاذ لنصوص الديوان الأخير للشاعر عبد الكريم الطبال، الصادر سنة 2021 تحت عنوان “الوردة فوق الأرض”، في ما مجموعه 147 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. وإذا كنا، في هذا المقام، لا ننوي تقديم قراءة نقدية تحترم إواليات صنعة الكتابة النقدية المتخصصة، فإننا -في المقابل- نسعى للاحتفاء بالإصدار الجديد للمبدع الطبال، من موقع البحث التاريخي المنشغل بأسئلة تطور الذهنيات، واستثمار التراث الرمزي المحلي، وتبلور مشاريع التاريخ الثقافي المستند إلى تراكم عطاء الفردانيات المنتشية بذاتها والمطمئنة ليقينياتها والمنشغلة بأسئلتها المخصوصة في زمانها المحدد وفي فضائها الدقيق.
لقد مارست مدينة شفشاون، أو الشاون، سلطتها الرمزية على ذات الشاعر، فسكنت وجدانه لتصنع تلاؤما فريدا وانسجاما مثيرا، بين ذات صوفية مكتفية بذاتها، وبين تكوين معرفي وثقافي يعيد الاعتبار لفعل التصوف، كسلوك وكرؤية وكمنهج وكنظام حياة وكأفق مشرع على رحابة السؤال. في هذا الإطار، استطاعت قصيدة الطبال التأصيل لسياقها المجالي ولشرطها الزمني من أجل تحقيق الارتقاء المطلوب بقلق الذات في سعي الشاعر نحو انتزاع الاعتراف الجماعي بفرادته تجاه مجمل الجزئيات التي تصنع معالم التحول وأسس إعادة اكتشاف التناقضات غير المرئية لدى المتتبع العادي. يقول الشاعر في نص “أمام المرآة”:
“لا يشبهني
هذا الوجه الذي أشهده
في المرآة
هذي المرآة
لا تشبه
مرآة الماء
التي أشهد فيها
وجهي.
ربما
مرآتي تشظت
ربما وجهي تشظى
ربما نحن رحلنا
ولما نستيقظ” (ص. 23).
يبحث الشاعر لنفسه عن كوة في الوجود، معيدا ترتيب أولوياته، ومعيدا قراءة خصوبة عطاء معالم الأمل في الأفق المشتهى. وفي ذلك مناجاة للقبض بالذي لم يأت بعد، في ظل انتكاس اللحظة وسوداوية الأفق. لن تجدي الشاعر -في هذا المقام- إلا استعاراته المشتغلة على نحت الألفاظ وعلى تطويع قاموسها العرفاني وعبقها الصوفي. يقول الشاعر في نص “أنا الضوء”:
“الضوء
سفر في البحر
دون قارب
إلى المحار
في الأعماق
ــــ
الضوء
يختص الرتابة
في الروح
فتفتح العينين
في المخاض
في الصمت الخفيض
ــــــ
الضوء
سحابة معلقة
في جيد نجمة
تصلي الليل
كل الليل
ـــــ
يا ليتنا
نراك
أو ترانا
نحن العماة” (ص ص. 46-47).
هي قراءة أصيلة لذات مسكونة بقلق الوجود داخل وسط متنافر الرؤى، لا شك وأنه انعكاس لتنافر يسم اللحظة الجماعية المولدة لنسق اليأس المزمن والمعمم تجاه الواقع القائم وتجاه انتظارات الغد. لقد قرأ الشاعر عمق النكوص، ونجح في بلورة هويته المؤطرة لنزوعاته الفردانية التي تحافظ لنفسها بكل المسافات الضرورية تجاه “‘جحيم الآخر”، بحبه القاسي وبتنافره المزمن. يقول الشاعر في نص “وثيقة” راسما معالم هويته المشتهاة:
“أيها الكهنوت
أيها الغارسون
الرماد
محونا الوثيقة
السلام عليكم
علينا السلام” (ص. 48).
إنها قصيدة عبد الكريم الطبال، وهذا صوته الشعري المفعم برحابة فعل التأمل المخترق لعوالم التنميط. لم تركن قصيدة الطبال للقوالب الجاهزة في تمثل وظائف الإبداع الشعري وأدواته وتنظيراته وتقليعاته، بل اختار ركوب تيار الحداثة المولدة للفكرة والمنتجة للصورة والمؤطرة للاستعارات “التي نحيا بها”. وفي هذا الجانب بالذات، يبدو مجال البحث في تاريخ الذهنيات حقلا خصبا يمكن أن يستوعب قلق الشاعر وإبدالات التراث الرمزي للواقع المعيش. ففردانية الشاعر قادرة على التوثيق الإبداعي للرموز وللمحكيات وللأحاسيس التي لا يمكن التوثيق لها في سياق التدوين التاريخي المدرسي الكلاسيكي. وعلى أساس ذلك، أمكن القول إن التاريخ الثقافي للمدينة، أية مدينة، لا ينهض إلا من خلال استنطاق عطاء الذوات المبدعة، بعينها الثالثة التي ترى ما لا يراه الآخرون في سياق حياتهم الاعتيادية اليومية.
إنها عين الشاعر عبد الكريم الطبال وهو يناجي ذاته ومحيطه، ليعيد تأثيث عناصر الانسجام والسكينة بين ذاته المهووسة بأسئلتها الوجودية، وبين فضائه الحميمي الخصب والمنتج، حيث الفطرة وحيث الطراوة وحيث الذات الواقفة في وجه الإعصار.
أسامة الزكاري