صلى الفقيه المفضل العشاء بالناس، وختم بالباقيات الصالحات بترتيبها المعتمد. كان الفقيه يعرف سر هذا الترتيب ويعلمه الناس، ويزعم لهم أن هذا مما لا يعرفه القاضي، ولا يمكن أن يعرفه. ولم يكن ينتظر أن يُسأل عن هذا السر لإفشائه. فقد عَلِمَ فقهاء جبل الحبيب جميعا أن الفقيه سمع من شيخه أبي الشتاء كلاما نقله عن أهل العلم فيه سر هذا الترتيب، وهو قولهم: «الأَوْلَى البداءة بالتسبيح؛ لأنه يتضمن نفي النقائص عن الباري سبحانه وتعالى، ثم التحميد؛ لأنه يتضمن إثبات الكمال له، إذ لا يلزم من نفي النقائص إثبات الكمال، ثم التكبير إذ لا يلزم من نفي النقائص وإثبات الكمال نفي أن يكون هناك كبير آخر، ثم يختم بالتهليل الدال على انفراده سبحانه وتعالى بجميع ذلك».
ثم كان يقول: هذا كنا نسميه كوثر المعاني.
وقد سأله السي الطاهر مرة عن قوله: ولا يمكن أن يعرفه. كيف يكون ذلك؟
فقال الفقيه: هذه أسرار ربانية، لا يمكن أن تعطى لمن يأتمر بأمر المراقب. ولنفترض أنه قد اطلع عليها في يوم من الأيام، فلا بد بهذا الفعل أن تمحى من صدره كما محيت من صدره جل العلوم.
كان أهل المدشر جميعا يعرفون أن هذه العبارة دالةٌ على أن الفقيه لم ينس بعد ما وقع له يوم (اكْرَامة) الفقيه المتيوي، غير أن الذي لم يكن يعرفه إلا القلة منهم أن الفقيه كان يطمع في تولي خطة العدالة، وأن القاضي وعده بذلك لولا أنه توصل برسالة من قاضي القضاة بتطوان تأمره بمراجعة المراقب في مثل هذه الأمور، وأن لا يقضي أمرا بدون موافقته. وكان نص الرسالة هو:
«الحمد لله وحده.
الفقيه الأَرْضَى قاضي قبيلة جبل الحبيب وفقكم الله وسلام عليكم ورحمة الله عن خير مولانا أيده الله، وبعد:
فإنه يتعين عليكم أن لا تَاذَنُوا لأحد في تعاطي خطة العدالة فيما يُستقبَل، وإن كان مستجمعا لشروطها المقررة شرعا حتى تبلغوا ذلك لمراقبكم الخاص مع ذكر صفات ذلك الشخص وسنه ومحل ولادته وسكناه وتستلموا جوابه بالموافقة عليه، إذ ربما تكون هنالك أسباب تمنع من إجابة ذلك الراغب خارجة عن ذلك الوصف، وعلى المحبة والسلام. في جمادى عام 1352. قاضي القضاة. إدارة العدلية الإسلامية. منطقة الحماية الإسبانية.
ولم يكن المراقب الإسباني راضيا عن الفقيه المفضل، ولا عن الفقيه العياشي، ولا عن الفقيه عبد الله، ولا عن السي الطاهر، ولعله لم يكن راضيا عن قبيلة جبل الحبيب كلها، باستثناء الدغمومي فقد كان يرافقه في الغابة إذا أراد صيد الخنزير ويساعده بنفسه وكلابه.
ولذلك كله كان الفقيه المفضل على يقين جازم أن الأسرار الربانية لا يمكن أن توجد عند من يأتمر بأمر المراقب.
نظر الفقيه عن يمينه وعن يساره وقدر بسرعة بالغة أنه قد صلى خلفه نحو عشرة رجال غير الطلبة، ثم قال: آجماعة اللي بْغَا يتعشى مرحبا به.
انصرف رجلان وبقي الآخرون ينتظرون، ثم قاموا إلى آخر المسجد حيث وُضِعَت (السْفِيرَة)، المصنوعة من خُوصِ الدَّوْمِ، وعليها الطعام، وانتظروا إلى أن قال الفقيه يدعوهم إلى الأكل: بسم الله، فأكلوا حتى لم يبق في الصحن شيء، ثم رجعوا إلى مكانهم الأول قرب المحراب، وجلسوا في حلقة واسعة، بينما انصرف ثلاثة رجال ممن لا يحفظ كتاب الله تعالى. ونظر الفقيه إلى الحضور ثم عدهم قبل أن يقول:
ـ السي الطاهر وزع السلكة. ثلاثة أحزاب لكل واحد.
نظر الطاهر عن يمينه فوجد الفقيه العياشي فبدأ به وهو يذكر اسمه احتراما:
ـ الفقيه العياشي: الم ذلك الكتاب ـ وإذا لقوا ـ سيقول السفهاء.
ثم أشار إلى الباقين دون أن يذكر أسماءهم، وإنما ينظر إلى الرجل ويذكر له الأحزاب التي عينها له.
ـ واذكروا الله ـ تلك الرسل ـ قُلَ اوْنَبِّئُكُمْ.
ـ لن تنالوا البر ـ يستبشرون ـ والمحصنات.
واستمر على ذلك حتى إذا وصل إلى (الدامر) قال: اَولم يروا ـ قال ألم اَقل ـ طه.
فقاطعه الفقيه المفضل بصوت حاسم: اعطه طه . اعطه طه.
نظر السي الطاهر إلى الفقيه مستغربا، فقال الفقيه: اَولم يروا ـ قال ألم اَقل ـ طه، لمن بعده في الترتيب. هو يكفيه (طه).
فرغ السي الطاهر من توزيع السلكة، وبدأ كل رجل من الحاضرين يقرأ ما عين له من أحزاب، فلما رآهم السي الطاهر قد شغلوا بالقراءة مال على الفقيه وقال:
ـ لعلك أحرجت الطالب.
قال الفقيه دون تردد: نحن لا نلعب.
فرغ القوم من قراءة السلكة وشرعوا في قراءة الصلاة المشيشية يرفعون أصواتهم بقراءتها جماعة، وليس فيهم من يعرف معناها. وقد طلب السي الطاهر مرة من الفقيه المفضل أن يشرح له بعض عباراتها فقال له: وأي عبارة تريد؟
قال السي الطاهر: ما معنى: اللهمَّ صلِّ على منْ منهُ انشقتِ الأسرارُ؟
قال الفقيه: معناها أسرار شهود كمال الذات الإلهية من غير حدقة عين، ولا كيف، ولا مكان، ولا فوقية مكانية، بل رفعة مطلقة.
فهو مغرب أسرار الذات، ومشرق أنوار الصفات، ومظهر أنوار التجليات بأنوار السبحات من سنا السرادقات بأنوار الترنحات، ومدد المدد، وجود الجود، وعين الرحمة الربانية. هل فهمت الآن آسي الطاهر؟
قال السي الطاهر: هذا شرح يحتاج إلى شرح.
قال الفقيه: هذا علم كبير له أهله. (عَنْدُو مْوَالِيهْ).
يومها قرر السي الطاهر أن يقرأ الصلاة المشيشية تبركا، واستغنى عن الفهم. على أنه لم يكن في قبائل جبالة فقيه لا يعرف هذه الصلاة التي خرجت من هذه الجبال إلى العالم أجمع. وقد قالها شيخهم مولاي عبد السلام بن مشيش فهم أحق بها.
اللهمَّ صلِّ على منْ منهُ انشقتِ الأسرارُ، وانفلقتِ الأنوارُ، وفيهِ ارتقتِ الحقائقُ، وتنـزلتْ علومُ آدمَ عليهِ السلامُ فأعجزَ الخلائقَ، ولهُ تضاءلتِ الفهومُ فلمْ يدركهُ منا سابقٌ ولا لاحقٌ، فرياضُ الملكوتِ بزهرِ جمالهِ مونقةٌ، وحياضُ الجبروتِ بفيضِ أنوارهِ متدفقةٌ، ولا شيءَ إلا وهو بهِ منوطٌ، إذْ لولا الواسطةُ لذهبَ –كما قيلَ- الموسوطُ، صلاةً تليقُ بكَ منكَ إليهِ كما هو أهلهُ. اللهمَّ إنهُ سِرُّكَ الجامعُ الدَّالُّ عليكَ، وحجابكَ الأعظمُ القائمُ لكَ بينَ يديكَ. اللهمَّ ألحقني بنسبهِ، وحققني بحسبهِ، وعَرِّفْنِي إياهُ معرفةً أسلمُ بها منْ مواردِ الجهلِ، وأكرعُ بها منْ مواردِ الفضلِ، واحملني على سبيلهِ إلى حضرتِكَ حملاً محفوفاً بنصرتِكَ، واقذفْ بي على الباطلِ فأدمغَهُ، وزُجَّ بي في بحارِ الأحديةِ، وانشلني منْ أوحالِ التوحيدِ، وأغرقني في عينِ بحرِ الوحدةِ حتى لا أرى ولا أسمعَ ولا أجدَ ولا أحسَّ إلا بها. واجعلِ الحجابَ الأعظمَ حياةَ روحي، وروحهُ سِـرَّ حقيقتي، وحقيقتهُ جـامعَ عوالمـي، بتحقيقِ الحقِّ الأولِ. يا أولُ يا آخرُ يا ظاهرُ يا باطنُ. يا أولُ يا آخرُ يا ظاهرُ يا باطنُ. يا أولُ يا آخرُ يا ظاهرُ يا باطنُ. اسمعْ ندائي بما سمعتَ بهِ نداءَ عبدكَ زكرياء، عليهِ السلامُ، وانصرني بكَ لكَ، وأيدني بكَ لكَ، واجمعْ بيني وبينكَ، وحُلْ بيني وبينَ غيركَ. اللهُ. اللهُ. اللهُ. إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلى مَعَادٍ. ربنـا آتنا منْ لدنكَ رحمـةً وهيئْ لنا منْ أمـرنا رشداً. ربنـا آتنا منْ لدنكَ رحمـةً وهيئْ لنا منْ أمـرنا رشداً. ربنـا آتنا منْ لدنكَ رحمـةً وهيئْ لنا منْ أمـرنا رشداً.
(يتبع)
محمد الحافظ الروسي