هذا الكتاب النادرالذي طبعت منه ثلاثمائة نسخة في حلة ورقية راقية بالمطبعة الرسمية بالرباط سنة1935 برعاية من السلطان المغفورله محمد بن يوسف.. والمدعم بصورلشخصيات عربية وعجمية عليها أثر النعمة بادية ..وصور لبقع مقدسة ومعالم أثرية لها الوفود زائرة..كان والدي ـ رحمه الله ـ يحتفظ بنسخة منه في صندوق ذخيرة من مخلفات «حرب الرمال» جلبه تذكارا من «حاسي بيضا» إلى مقرسكنانا بقشلة «جانكير»بالدار البيضاء وكان يحيطه بعناية خاصة ويتفقده بين الفينة والأخرى.
وكنت ـ أنا الطفل الفضولي الصغيرـ أتحين الفرص للاطلاع على مكنون ذاك الكتاب الكبير، وكلما استفردت به تصفحته وتهجيت حروفه وأمعنت النظر في مجمل صوره ..وكانت تروادني فكرة استعمال المقص للا حتفاظ ببعضها ،لكنني خشيت أن «يسلخني» والدي ب»السمطة»..مما جعلني أحسب للعاقبة ألف حساب و أكتفي بنسخ ما راق لي من صور مستعينا بورق الكاربون»الخراج».
ظل هذا الكتاب بين أحضان أسرتي في الحفظ والصون وظل رفيقا لها في حلها وترحالها بين الحواضر ولما هجرت الأهل والأحباب لطلب العلم بمدينة فاس حملته معي في وطابي وزودت به خزانتي لكن دوام الحال من المحال فأنيسي في غربتي قد اختفى في غامض الظروف والأحوال.
ومما لم يخطرعلى بال، أنه بعد عقود من اختفاء هذا الكتاب الميمون،جاءتني بشارة من صديقي الحميم ،الأستاذ الجليل الدكتورعبد اللطيف شهبون الذي أخبرني ذات عشية من العشرالأواخرفي رمضان، بأنه قد عثر في سوق الغرسة الكبيرة بتطوان على كتاب معنون ب: «دليل الحج والسياحة» وقد لفت انتباهه تذييل بخط اليد في الصفحة الموالية لوجه الغلاف يشيرإلى كون «هذا الكتاب في ملكية مبارك وطاش».
وأفادني صديقي اللطيف شهبون بأن هذا الكتاب قد وضعه رهن إشارة طالب قام بتخريجه وأنجز بحثا وصفيا لمحتوياته فنال شهادة الماستربموجبه.
فهذا الخبراليقين الذي أدهشني وأبهجني في الوقت ذاته، قد أكد لي بمالايدع مجالا للشك بأن ذاك الكتاب الذي اقتناه الأستاذ شهبون من سوق الغرسة الكبيرة بتطوان وقام بتخريجه تحت إشرافه الطالب رضوان لمبارك، هوالكتاب عينه الذي أخرجته من صندوق ذخيرة والدي وعززت به خزانة كتبي، مذ كنت تلميذا في الإعدادي برباط الخير «أهرمومو»إلى أن أصبحت طالبا بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس في مستهل الثمانينيات، حيث كنت أكتري بيتا لإيواء الطلبة بدوارالعسكر تحت سقيفة أسرة متقاعد من أصول شمالية.
لست أدري على يد من انتقل هذا الكتاب «المفقود» من فاس إلى تطوان إن كنت أشك في صاحب المنزل.. لكنني على يقين بأن الله سبحان وتعا لى قد هيأ له الأسباب ليخرج من ظلمات النسيان إلى نور العرفان .إنها في الحقيقة من الصدف الغريبة المحيرة للأذهان ..
واحتفاء بهذا العائد المسعود الذي اختفى منذ عقود ارتأيت أن أفرش له بساطا من الورود في رحاب هذا العمود..
وقبل الشروع في نشر محتويات هذا الكتاب القيم، ارتأيت تسليط الضوء على مقال وصفي لهذه الرحلة الحجية أنجزها الباحث أحمد مكاوي بتاريخ 12 فبراير 2017.
ترجمة الكاتب :
أحمد بن محمد الهواري، نجل القاضي والفلكي محمد بن أحمد الهواري، ولد في مدينة فاس عام 1311هـ (1893م)، درس في المدرسة الابتدائية الفرنسية في طنجة، ثم التحق رفقة مجموعة من الشباب بإحدى مدارس بيروت قبيل الحرب العالمية الأولى. عاد إلى طنجة عام 1914، وأتم دراسته بالكوليج الفرنسي إلى عام 1916. عين كاتبا بدار النيابة في لجنة الأشغال العمومية ومحررا بجريدة الترقي ثم كاتبا مترجما بالقسم العدلي بالكتابة العامة للحكومة الشريفة في الرباط. استقال من الخدمة وفتح مدرسة خصوصية في فاس لتعليم اللغة الفرنسية، ثم ذهب إلى سلا وفتح بها مدرسة للغرض ذاته. تخلى عن الشأن التعليمي، وعاد إلى طنجة حيث أصبح عدلا. ثم عاد إلى سلا مترجما بقسم المندوبية. وفي سنة 1922، اتخذته إدارة جريدة السعادة محررا لها إلى أن صار رئيس تحريرها، وفي سنة 1929 عينه المخزن عضوا بالمحكمة العليا الشريفة. كان الهواري كاتبا لجمعية أحباس الحرمين الشريفين. كما تولى مسؤولية خليفة باشا الرباط ثم الدار البيضاء. توفي سنة 1327هـ/1953م.
الرحلة الحجية :
راكم المؤلفون المغاربة، عبر مختلف الفترات التاريخية، كمًّا معتبرا من المتون الرحلية لاسيما الحجية منها. وتمثل فترة الحماية (1912 – 1956) وما بعدها، واحدة من أخصب الفترات بشأن تدوين الرحلات الحجية والمشرقية بصفة عامة، بفعل يُسْر المواصلات مقارنة بمرحلة ما قبل الحماية، إذ اخْتُزلت مدة الحج ذهابا وأوبة في أسابيع بل في أيام مَعْدُودَات، بعد أن كانت تمتد لأشهر وقبل ذلك بسنوات، ومن ثم تقلصت معاناة الحجاج، مع تعويض السفن البخارية المتطورة ثم القطارات والسيارات وأخيرا الطائرات، كلا من القوافل والسفن الشراعية وما رافقها من مشاق ومخاطر وطول مدة السفر ذهابا وإيابا.
استفادت نصوص رحلية حجية من النشر الفوري، إذ سهر أصحابها على تغطية رحلاتهم لفائدة صحف، منها صحيفة السعادة. وتيسر لآخرين نشرها في مؤلفات، علما بأن عددا من الرحلات الحجية لم تعرف طريقها إلى النشر إلا خلال السنوات القليلة الماضية، فيما ظل بعضها يطويه الإهمال والنسيان.
لعل ما ميز رحلة الهواري، أنها استفادت مبكرا من عمليتي الطبع والنشر، إذ لم يكن ثمة فارق زمني بين القيام بالرحلة وتدوينها وبين نشرها. فقد تولت صحيفة السعادة تغطية أطوارها بما أن صاحبها كان يسجل مشاهداته وانطباعاته ويبعث بها تباعا إلى الجريدة المذكورة لنشرها عبر حلقات. ثم قام الهواري بجمع تلك المراسلات ونقحها ثم أخرجها في كتاب من 315 صفحة، إضافة إلى صفحات إضافية خاصة بالمواد الإشهارية، وهو ما لم يرد في رحلة حجية مطبوعة قبلها. وقد دعمت مصالح كثيرة المؤلف في عمليتي طبع الكتاب ونشره لاسيما على شكل اكتتاب، ثم إنه استفاد، ولاشك في ذلك، من مردود المواد الإعلانية التي غطت الصفحات الأخيرة من الرحلة مما لم يرض بعض المطلعين عليها…!
1 – رعاية متعددة لرحلة الهواري
يفيد نص رحلة الهواري الحجية، حصول تحول نوعي بشأن أداء مناسك الحج خلال عهد الحماية، إذ وجب على الموظف الساعي إلى الحج توفره على إذن مسبق من السلطات الحكومية «خوف ضياع راتبه أو نقصانه»(ص10)، وقد أورد الهواري وثيقة الترخيص للموظفين لأداء فريضة الحج موقعة من قبل المقيم العام الفرنسي هنري بونسو (Henri Ponsot) والصدر الأعظم محمد المقري، حاملا تاريخ 8 مارس 1934(ص13 – 14). وبالنظر إلى مكانة الهواري بحسبانه شخصية مرموقة وموظفا ساميا، فإنه استأذن السلطان محمد بن يوسف، عبر الصدر الأعظم، للذهاب إلى الحج (ص32). و الحالة هاته، فإن الهواري، أهدى كتابه للسلطان، موردا النص الكامل لكلملة الإهداء(ص 10 – 11). كما أدرج قبلها نص الظهير السلطاني جوابا عن الإهداء (ص 2).
وباعتباره شخصية مرموقة، وبحكم الصلات التي جمعته بعدد من المسؤولين الفرنسيين، مكنه المقيم العام بونسوت (Ponsot)، لتسهيل حجته، من رسالة استوصاء به لدى قناصل فرنسا في عدد من المدن والعواصم شرقا وغربا، أورد الهواري نصها كاملا باللغة الفرنسية (ص12). و حصل كذلك على توصية به من هنري كايار (Gaillard Henri ) سفير فرنسا وقتذاك في القاهرة، إذ أوصى به خيْرًا، قنصلية فرنسا في مدينة السويس المصرية، حيث كانت تجري عادة مراقبة جوازات السفر والخضوع لتدابير مكتب الصحة هناك قبل التوجه إلى الحجاز (ص106). وكان الهواري قد زار كايار في القاهرة، وهو الذي جمعته به «علائق ودية قديمة »( ص 84)، كما استفاد صاحب الرحلة من تدخل صديقه الفرنسي لورجو، قنصل فرنسا في القاهرة، والذي عمل في وقت سابق في الإدارة العامة للحكومة الشريفة بالرباط، ففي هذه القنصلية.
واللافت للانتباه في الصفحات الأولى من «دليل الحج و السياحة»، إيراد الهواري نص تقريظ العلامة محمد الرافعي لهذه الرحلة (ص 16-23) قبل شروعه في تدوين مشاهداته و انطباعاته، علما بأن التقاريظ وردت، كما هي العادة في كل المؤلفات، في آخر الرحلة، مما يعني الأهمية القصوى التي أولاها الهواري للتقريظ الصادر عن الرافعي!!.
(يتبع)
محمد وطاش