فِي أَوَائِل خَمْسِينِيَّاتِ الْقَرْن الْمَاضِي ازْدَادَتْ فَاطِمَة بِبَابْ تَازَة. كَان وَالِدُهَا مُحَمَّد الشّنْتُوف مُتَزَوِّجًا مِن بِنْتِ خَالَتِهِ أَمِينَة البْغِيّل. صَاحِبَ دُكَّانٍ صَغِير، يَبِيعُ فِيه شاياً وَسُكَّراً وَزِيتاً وَشَمَعاً وَأَشْيَاءَ أُخْرَى فِي غَايَة الْبَسَاطَة .. كَانَتْ فَاطِمَة بِنْتًا وَحِيدَةً؛ وَهَذَا أَمرٌ غَيْرُ مَأْلُوفٍ فِي ذَلِك الْأَيْن .. بَعْدَ وِلَادَةِ فَاطِمَة أَجْهَضَتْ وَالِدَتُهَا أَرْبَعَ مَرَّات .. رُبَّمَا كَان ذَلِك رَاجِعًا إِلَى تَشوُّهَاتٍ جِينِينِيَةٍ ذَاتَ صِلَةٍ بِقَرَابَةٍ عائليةٍ لَهَا بَعْضُ أَثَرٍ فِي ظُهُور أَمْرَاض وِرَاثِية.. فِي يَوْمٍ زَمْهَرِيرٍ خَرَجَتْ فَاطِمَة لِلِاحْتِطَابِ تَوْفِيَرا لِبَعْض مَا قَدْ يُدْفِئُ لَيْلًا .. فِي طَرِيقِهَا رَمقَهَا شَخْصٌ، حَرِصَ عَلَى مُلَاحقةِ خَطْوِه .. كَان الرَّجُل مِن فُلُولِ الْمُشَارِكِين فِي الْحَرْبِ الْأَهْلِيَّة الإِسْبَانية ضِمْنَ جُنْدِيِّ الجنرال فْرَنْكُو؛ الْمُتَمَرِّد عَلَى الْحُكْم الشَّرْعِيّ فِي بِلَادِه ..
حَرِصَ الرَّجُل عَلَى مُراقبَتها ومُلاحقتِها.. وما إنْ وَصَلَتْ إِلَى مَكَانٍ لا أَحَدَ بِه، ولا شَيْءَ فِيْه حَتَّى انْقَضَّ عَلَيْهَا واضِعاً إحْدَى يَدَيْه عَلَى فَمِهَا ثُمّ جَرّهَا قَهَراً وَرَاءَ شُجيْراتٍ وَاغْتَصَبَهَا كَرْهاً بِطَرِيقَةٍ وَحْشِيَّةٍ . نَالَ الرَّجُل مِن طَريدَيه بَغْتَتهُ الْغَرِيزِيَّة ثُمّ هَدَّدَهَا بِالْقَتْل إن هِي اشْتَكَت بِأَبِيهَا بِالْوَاقِعَة.. مُذَكِّرًا إيَّاهَا أَنَّه قَدْ اُغْتُصِبَت، ثُمّ قَتْل إِسْبَانيات.. لَم تَتمَالَكْ فَاطِمَة نَفْسَهَا فَأَسَرَّت..
لَم تُخْفِ أَمِينَة عِنْد زَوْجِهَا فَاجِعةَ اغْتِصَابِ بِنْتِهَا.. حَاوَلَ الْوَالِدَان انْتهَاجَ مَسْلَكٍ خَاصٍّ لِلتَّخْفِيفِ مِن هَوْلِ اغتصابِها.. وَرَكَنَا إِلَى صَمْتٍ..
بَعْد انْصِرَام زَمَنٍ يَسِير وُجِدْتْ جُثَّة الرَّجُل الْمُغْتَصِبْ فِي مُنْعَرَجٍ وَهِي فِي حَالٍ مِن تَشوُّهٍ كَامِل.. فَهِمت فَاطِمَة وَأُمّهَا هَذِه الْوَاقِعَة وظلَّتَا مُلْتزِمَتين بِصَمْتهِمَا.. ظَلّ مُحَمَّد الشّنْتُوف يُمَارِسُ عَمَلَهُ بِشَكْلٍ رتِيب.. كأنهُ قَد دَفَعَ مَجْمُوع مَا وَفَّرَهُ مِن مَالٍ لمُرْتزِقٍ سَبَق لَه بِدَوْرِه الِالْتِحَاق بِجُنْدِيّ الجنرال فْرَنْكُو حَتَّى يَثْأَرَ لِشَرَف بِنْتِه..
اغْتَالَ الْمُرْتَزِق مُغْتَصِب فَاطِمَة، ثُمّ لَاذ بِالْفِرَار عَبْر “غرباوة ” إِلَى مِنْطَقَة الْحِمَايَة الْفَرَنْسِيَّة..
بَعْدَ مُضِيّ شَهْرَيْن مِنْ فاجِعة الِاغْتِصَاب تَبَيَّنَت أَمِينَة أنَّ بِنْتهَا حَامِل..
بَدَتْ فِي جِسْمِهَا تَغَيُّرَاتٍ.. وكانتْ تَقْضِي جُلَّ أَوْقَات نَهارَاتِها مُتمَدِّدَة فِي الْفِرَاش وَهِي تُقَاوِمُ حَالَات غَثَيَانٍ وقُيَاءٍ بَعْد انْحِبَاسِ عَادَتِهَا الشَّهْرِيَّة.. عَلِم وَالِدُهَا بِذَلِك، فَبَاعَ عَلَى وَجْه اسْتِعْجَال دُكَّانَه وَقِطْعَةً أَرْضِيَّةً كَان قَد وَرِثَهَا مِن عَمِّه الَّذِين لَم يَكُن لَه..
غَادَرَتِ الْأُسْرَةُ بَابْ تَازة مُتَوَجِّهَةً إِلَى تِطَّاوُّن فِي سِرِيَّةٍ تَامَّة.
اسْتَقَرَّتْ الْأُسْرَةُ النازحَة لِحَيّ الْمَلَّاح بَعْد تَمَكُّنِهَا مِن اسْتِئْجَار غُرْفَة فِي سَكَنٍ جَماعي مَع جِيرَان مِن شَرِيحَة اجْتِمَاعِيَّة وَاحِدَة.. بَعْد أَرْبَعَة أَيَّامٍ احْتَرَف الْأَبُ حِرْفَةَ حَمَّالٍ لمتَاجِر بِبَابْ التُّوتْ.. وَأَمَّا فَاطِمَة فَوَجَدْت نَفْسَهَا خَادِمَةً فِي بَيْت أَرْمَلَة لِضَابِط إِسْبَاني. كَانَت إلفِيَرا منتيث أربعينية لَهَا بِنْت اسْمُها مريبل فِي سِنّ فَاطِمَة شَقْرَاء مِثْل أُمِّهَا الإشْبِيلِية
ظَلَّتْ إلفييرا مُتَعَلِّقَةً بِحُبِّهَا الْعَيْشَ فِي تِطَّاوُّن، وَهِي المحتفِظَة بِمَكَانَتِهَا الِاجْتِمَاعِيَّة الْمُتَمَيِّزَة الْمَوْرُوثَة عَن مَوْقِعِ زَوْجِهَا الَّذِي كَان أَحَد أَبْطَال الْحَرْب الْأَهْلِيَّة.. فَضْلًا عَن ذَلِك كَان لإليفِيَرا نَفْس الْمَكَانَة عِنْد السُّكَّان الْأَصْلِيِّين لِكَوْن جِنسِيتَها هِي جِنْسِيَّة الْقُوَّة المستعمرة الْحَاكِمَة بشَمَال الْبِلَاد..
كَانَتْ جارَة أمينة فِي حَيّ الْمَلَّاح وَاسِطَة الْحُصُول فَاطِمَة عَلَى عَمَلِهَا بِمَنْزِل إلفِيَرا؛ حَيْثُ سَبَقَت لَهَا الِاشْتِغَال لَدَيْهَا..
تَتَكَلَّمُ الفِيَرا مَع فَاطِمَةَ بِلسَانٍ هُو خَلِيطٌ مِن دارِجَة وإِسْبَانية بِلَكْنَةٍ إشْبِيلِيَّة..
انْبَنَتْ بَيْن الفِيَرا وَفَاطِمَة ثِقَةٌ وَأُلْفَةٌ شَجَّعَتْ فَاطِمَة عَلَى اطِّلَاعِهَا بفَاجِعَة اغْتِصَابِها، فَتَأَسَّفَتْ لَهَا.. وَتَوَلَّد لَدَيْهَا عَطَفٌ خَاصٌّ، وَهِي نَفْس سِنِّ بِنْتِهَا مَرِيبيل.. فَطَلَبَتْ مِنْهَا الْمَبِيتَ فِي مَنْزِلِهَا تَحْقِيقًا لمُؤَانَسَةٍ.. وفسْحاً لإمْكانيَةِ خُرُوجِهَا إِلَى النَّادِي الإِسْبَاني أَو نَادِي الْفُرُوسِيَّة لِلتَّرْفِيه أَوِ الْخَوْض فِي أَحَادِيثٍ مَع مُواطِنِيها الْمُقِيمِينَ بتِطَّاوُّن..
تَمَكَّنَتْ فَاطِمَة فِي زَمَنٍ وَجِيزٍ مِن التَّحَدُّث بِلُغَة إِسْبَانية خُلَاصَة أَثَرِ تواصُلِهَا الْيَوْمِيّ مَع مريبيل الَّتِي تَمَيَّز نُطْقُهَا بفَشْتَالِيَة مُتَدَاوَلَة فِي مُؤسَّسَاتٍ تَعْلِيمِيَّةٍ بتِطَّاوُّن..
كَان سُلُوكُ فَاطِمَة مِثَاليًا؛ مِمَّا طَبَع مُعَامَلَةَ الْغَيْرِ لَهَا بانجِذَابٍ وحَميِمِيَة..
حَرِصْت اليفِيَرا عَلَى مُرافقتها إِلَى مُستوصَفِ بَابْ التُّوتْ.. كَان هَذَا الْأَخِيرُ عَلَى مَسَافَةٍ جِدْ قَرِيبَة مِن مَنْزِلِهَا. كَان الدكتور الإِسْبَاني الْمُخْتَصّ في التَّوْلِيد هُو إربتي، لِذَا ظَلّ مَقْصِد اسْتشَارتهَا.. أَكْمَلْتْ فَاطِمَة أسْبُوعها الْأَرْبَعِين مِن الْحَمْل.. وَلَمًّا حَالَ وَقْتُ وَضْعِهَا رَافَقتْهَا إِلَى مَصْلَحَةِ التَّوْلِيد بمستَشفَى سَانْيَة الرَّمَل، بَعْد تَرْكهَا لِبِنْتِهَا مريبيل مَع جَارَة إِسْبَانية؛ زَوْجَة ضَابِط فِي الْجَيْش الإِسْبَاني مِن فرْقة الخَيَّالَة.. لَم تَسْتَغْرِق الْوَضْع مُدَّةً طَوِيلَة، فَبَعْد اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَة انْتَهَى الْوَضْعُ فِي ظَرْفٍ طَبِيعِيٍّ عَلَى يَدِ مُوَلِّدَة إِسْبَانيَة ذَات مِرَاسٍ طَوِيل فِي التَّوْلِيد؛ هِي السَّيِّدَة فَالِيسْ ذَات الْأُصُولِ الكطليانيَّة.. كَان وَزْن الْمَوْلُود أَرْبَعَة كيلوغرام.. وَعِنْدَمَا تَمّ وَضْعُه فِي حِضْن أُمِّه بَدَأ يَبْحَث عَن ثَدْيِهَا. أَرْضَعَتْه فَاطِمَة فانتابها شُعُورٌ خَاصٌّ بِالْأُمُومَة.. كَان مستشفى سَانْيَة الرّْمَلْ بتِطَّاوُّن مُدَارًا مِن طَرَفِ رَاهِبَاتٍ.. مَشْهُورًا بنَظَافتِه وَحُسْنِ نِظَامِه فِي كُلِّ مَرَافِقِه.. كَانَتْ الرَّاهِبَاتُ تُسَكَّنُ فِيه، وكَانَتْ لَهُنَّ قِطْعَة أَرْضِيَّة خَصَّصْنها لِجَمِيع أَنْوَاعِ الْخُضَر.. فَضْلًا عَنْ أَمَاكِنَ خَاصَّة بِتَرْبِيَة دَوَاجِن وأَرَانِب.. مِن أَجْلِ اسْتِهْلَاك ذَاتِيّ.. وَكُنَّ ماهِرَاتٍ فِي إعْدَادِ وجَباتهِنَّ الْغِذَائِيَّة.. بَعْدَ ثَلاَثَة أَيَّامٍ حَضَر إِلَى المستشفى سَائِقُ تاكْسِي مَعْرُوفٌ فِي أَوْسَاط الْجَالِيَة الإِسْبَانية بِمَرحِه وَخِفَّة دَمِه وَإِتْقَانِه الْحَدِيث بِاللُّغَة الإِسْبَانية كَانَ يُنَادِي: حدكان
كَان سَائِقُ التَّاكْسِي مِن أَسر بفَاطِمَة إِلَى المستشفى وَالذَّ بإرجاعها إِلَى الْمَنْزِل بَعْد الْوِلَادَة.
أَقَامَت فَاطِمَة فِي مَنْزِل مُشَغَّلتِها بِشَكْل دَائِم، وَتَمَكَّنَت الفِيَرا مِن تَسْجِيل الْوَلِيد فِي دَفْتَرٍ أُسرِيٍ مَع أُمِّه بَعْدَمَا حَمَلَ اسْم يُوسُف رُودْ بلَس، وَهْو اسْمٌ عائليٌ مُخْتَارُ يتقاسَمُه الإِسْبَان المُورِيسْكيُون الَّذِينَ نُزِحُوا إِلَى الْمَغْرِب بَعْدَمَا طَرَدَهُم فِلِيبِّي الثَّالِثْ مَلِكِ إِسْبَانيا.
كَانَتْ الفِيَرا تُسَاعِدُ فَاطِمَة فِي كُلِّ مستلزماتِ تَرْبِيَة وتَنشِئة يُوسُف انْتِظَامًا فِي مرَكَبتِه الصَّغِيرَة لاستنْشَاق الْهَوَاء النَّقِيّ، وَالذَّهَابِ بِه إِلَى عِيَادَة الدكتور بُوكَا الِاخْتِصَاصِي فِي طب الْأَطْفَال كَلَّمَا اسْتَدْعَى الأَمْر ذَلِك، كَان الدكتور بوكا فَارِح الطُّول، لا يُرَى إلَّا لَابِسًا بذْلاتٍ داكنة اللَّوْن، مُلَازِمًا حَقِيبَتَه اليَدَوِية..
كَانَ ضَعِيفَ الْبَصَرِ فاسْتَعاضَ عَن ذَلِك بنَظَّاراتٍ سَمِيكَة..
مَرّتِ الْمَرْحَلَة الأُوْلَى مِنْ طُفُولَة يُوسُف بِيُسْرٍ وسَلاسَة؛ مُعَلّم الدَّارجَة مِنْ أُمِّه والإِسْبَانية مِنْ مَرِيبيل والفِيَرا.. بَيْنَ حِينٍ وَآخِرٍ انْتَظَمَتْ زِيَارَة جَدِّه وَجَدَّتِه لِرُؤْيَتِه؛ خَاصَّةً وَهُما احليصان عَلَى سِرّ ابْنَتَهُمَا ضَحِيَّة اعْتِدَاء وَحْشِيّ..
اعْتَادَتْ فَاطِمَة عَلَى اللِّبَاس الأُورُبّي؛ كَانَتْ تُوفِّرُه لَهَا الفِيَرا؛ بَعْضُه جَدِيدٌ وَبَعْضُه مُسْتَعْمَل..
أَصْبَحْتْ فَاطِمَة خَيَاطَة مَاهِرَة بِفَضْل الفِيَرا.. وكانتْ هَذِه مُهِمَّة باستجْلابِ زبُونَات إِسْبَانياتٍ لِتَخْلِيطِ لَهُنّ أَزْيَاء بَسِيطَة..
كَلّفَتْهَا الفِيَرا بِالذَّهَاب إِلَى السُّوق المركَزي الْكَائِنْ فِي الْحَيّ الأُوربي لِلْمَدِينَة بَعْدَمَا دَرّبَتها عَلَى طَرَائِق التَّبضُّع..
كَان السُّوق غَيْر بَعِيد عَن الْمَنْزِل بِجِوَار المحطّة الطُّرُقِيَّة الَّتِي كَانَت تَسْتَقْبِل حَافِلات حَواضِر الْمِنْطَقَة الخَليفية..
كَان سُوقًا كَبِيرًا نَظِيفًا مُنَظَّمًا خَاضِعًا لمُراقبة الْمُحْتَسِبِ التَّابِع لِلْمَصَالِح الخليفية؛ كَان الْخَلِيفَة مَوْلَاي الْحَسَن بَنْ الْمَهْدِي مُمَثّلًا لِلْمَلِك مُحَمَّد الْخَامِس الْقَائِم بِالرِّبَاط كَان السُّوق ذَا مُسْتَوِيَيْن؛ تَحْت أَرْض لِبَيْع الْأَسْمَاك وَفَوَاكِه لِلْبَحْر، ومستوى فَوْقِي خَاصّ لمحلات تِجَارِيَّة لِبَيْع اللُّحُوم بِأَنْوَاعِهَا.. وَالْمَوَادّ الْغِذَائِيَّة وَالْخَضِر وَالْفَوَاكِه وَأَمَّا أَصْحَابِهَا فإِسْبَان ومغاربة..
د. عبد الواحد الطريس