يُحكى أن أميراً من أمراء المسلمين، اعتزم اختيار قاضي قضاة لإمارته، فعرض الأمر على وزرائه، فاقترحوا عليه أسماء معروفة بصلاحها وتقواها.
ففضل أن يفتح المجال لكل من يأنس في نفسه القدرة على تحمل هذه المسؤولية الجسيمة.
وهكذا انتدب مناديا ينادي في الناس، أن أمير البلاد، قرر اختيار قاضي قضاة لإمارته، وأن الباب مفتوح في وجه كل من يرغب في هذا المنصب، شريطة أن يكون على إلمام تام، بعلوم الفقه والدين.
وفي اليوم الذي حدده المنادي، حضر إلى القصر جمع غفير من المرشحين، فاجتازوا اختبارا أوليا في مدى تطلعهم إلى المنصب أو تحرجهم منه. وجاءت النتيجة لصالح الذين تخوفوا من المسؤولية ومن تبعاتها.
احتُفظ بهؤلاء، ثم امتُحنوا في علوم الشريعة والدين، ففاز منهم من فاز، ورسب من رسب.
ثم ضُرب للناجحين موعد مع الأمير، ليختار منهم من يراه أهلا لهذا المنصب، وأصر على أن يستقبلهم واحداً واحداً بحديقة قصره، قرب صهريج يُعرف بصهريج النارنج، لأنه محاط بأشجار هذه الفاكهة، الشبيهة بالبرتقال شكلاً لا طعماً.
وكان إذا اختبر المرشح، وأوشك على توديعه، يسأله عن الفاكهة العائمة على سطح الصهريج، فيكون الجواب: إنها النارنج يا مولاي.
تكرر هذا السيناريو مع المرشحين جميعهم، حتى إذا دخل المرشح الأخير، واختبر الأمير معلوماته، سأله وهو يستعد للانصراف، عن الفاكهة العائمة على سطح الصهريج، فلم يجبه في الحال، وإنما شمر عن ساعديه، وانبطح على حافة الصهريج، وأخذ يجذف بيده، ليقرب الفاكهة المراد التأكد منها، فإذا تناولها، قشرها وذاقها، ثم قال: إنها النارنج يا مولاي. ولما سأله عن الأخرى، شمر عن ساعديه، و….. وظل هكذا يشمر وينبطح، ويتناول الفاكهة، ويقشرها ويذوقها إلى أن تأكد الأمير أن الرجل لا يرجم بالغيب، ولا يصدر الحُكم إلا إذا تيقن من صوابه.
هنا صافحه الأمير، وهنأه بمنصب قاضي القضاة.
هذه الحكاية، كنت أدَرّسُها لتلاميذي في حصة المطالعة تحت عنوان: “فضيلة التروّي”.
وهي ـ كما ترون ـ غنية بالدلالات، خصوصا في وقتنا الراهن الذي كثر فيه الحديث عن مدى استقلال القضاء وحياده ونزاهته.
مصطفى حجاج