لا شك أننا نعيش أيام الرحمة والمغفرة من خلال هذا الشهر الكريم، شهر الصيام والقيام، هذا الشهر الذي أمرنا فيه بتحري سبل الخير والفلاح، والبعد عن اقتراف الآثام والمحرمات، إلا أننا نجد وللأسف بعض التجار وأرباب الشركات يتعاطون بعض المعاملات يقصدون من ورائها الربح الكثير؛ وأقصد بذلك الاحتكار، وحسبي هنا أن أبين هنا حكم الإسلام في هذه المعاملة، ذلك أن الإسلام في نظامه المالي رسم طريقا محددة لوظيفة الأموال، فمتى حاول الإنسان تنمية أمواله بطرق تلحق الضرر بالجماعة؛ كاستغلال الأفراد عن طريق الغش والتدليس وشراء السلع من الغرباء أو ما يصطلح عليه بتلقي الركبان، أو عن طريق استغلال ضائقة المسلمين من احتكار السلع وانتظار ارتفاع ثمنها فإنه يقابل بالرفض.
والاحتكار في اللغة هو ادخار الطعام للتربص، وصاحبه مُحتكِر، وحكَرَه حكْراً؛ ظلمه وتنقصه وأساء معاشرته.(لسان العرب لابن منظور). أما في الاصطلاح الفقهي فقد قال الباجي عن المالكية الاحتكار هو: “الادخار للمبيع وطلب الربح بتقلب الأسواق” (المنتقى للباجي)، وعند الحنفية ذكر صاحب العناية: “الاحتكار احتباس الشيء انتظارا لغلائه” (العناية شرح الهداية).. ويتبين من هذا أن الاحتكار هو إمساك الطعام بعد شرائه انتظارا لبيعه وقت الغلاء. وقد وردت عدة نصوص في إثم الاحتكار ومنعه، منها ما روى الإمام مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: “لا حَكْرة في سوقنا، لا يعمد رجال بأيديهم فضول من أذهاب إلى رزق من رزق الله بساحتنا فيحتكرونه، ولكن أيما جالب على عمود كبده في الشتاء والصيف فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء الله وليمسك كيف شاء الله” (المنتقى للباجي)، وأخرج الإمام أحمد في مسنده قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من احتكر طعاما أربعين ليلة برئ من الله تعالى وبرئ الله تعالى منه” (المسند)، وعن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يحتكر إلا خاطئ” (نيل الأوطار)، إلى غير ذلك من الأحاديث التي تبين إثم الاحتكار وعقوبة فاعله.
وقد اختلف الفقهاء حول المواد التي يكون فيها الاحتكار دون غيرها، وأغلبهم متفق على أنه يكون في كل الأقوات التي يقوم عليها عيش الناس في وقت الشدة والضيق، فقد جاء في المدونة قوله: “قال: وسمعت مالكا: الحكرة في كل شيء في السوق؛ من الطعام والزيت والكتان وجميع الأشياء والصوف وكل ما أضر بالسوق..” (المدونة الكبرى)، ووجه ذلك أن هذا مما تدعو الحاجة إليه لمصالح الناس فوجب أن يمنع من إدخال المضرة عليهم، وقال ابن عابدين من الحنفية: “وكره احتكار قوت البشر كتين وعنب ولوز، والبهائم كتبن وقتًّ في بلد يضر بأهله، لحديث: الجالب مرزوق والمحتكر ملعون، فإن لم يضر لم يكره” (حاشية ابن عابدين)، وذكر أبو يحيى زكرياء الأنصاري الشافعي أن الاحتكار يختص “بالأقوات ومنها؛ التمر والزبيب والذرة والأرز، فلا يعم جميع الأطعمة” (أسنى المطالب)، بينما يركز ابن قدامة الحنبلي على القوت حيث قال: “أن يكون المشترى قوتا، فأما الإدام والحلواء والعسل والزيت وأعلاف البهائم فليس فيها احتكار محرم” (المغني لابن قدامة).
وانطلاقا من هذه النصوص الفقهية يتبين أن المعتبر في تحريم الاحتكار أو النهي عنه أن تكون المادة المحتكًرَة قوتا يتقوى الناس به، ولهذا فإن شراء التجار لسلع أكثر من حاجياتهم وكفايتهم منها في حال يكون بالبلد والسوق كأيام الطلب على السلع المتزايد في المناسبات كشهر رمضان في حالة الجفاف والقحط إنما هو الاحتكار عينه.
إلا أننا وجدنا بعض الفقهاء قد اعتبروا علة المنع السابقة غير كافية في منع الاحتكار وهي علة الطعام والقوت، حيث أضاف المالكية أن شرط منع الاحتكار هو الإضرار بالناس أو السوق؛ سواء كانت المواد المحتكَرة طعاما أو غيره، فذكر الباجي أن الذي رواه ابن المواز وابن القاسم عن مالك أن الطعام وغيره.. وجميع ما يحتاج إليه في ذلك سواء. (المنتقى للباجي).
ومن هنا تتبين الرؤية الشاملة للفقه الإسلامي، فلا تقف عند التقييد الذي ورد في بعض النصوص، وإنما توسع في كل ما يدخل في هذا الإطار، فمتى هدف المتعاملون في النشاط الاقتصادي إلى رفع سعر سلعة ما على الناس؛ كان ذلك احتكارا، وهو ما يُجلِّيه الحديث الشريف: “من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليُغليه عليهم كان حقا على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة” (نيل الأوطار)، ولهذا منع غير واحد من الفقهاء بعض عقود الشركات بين الأفراد الممتهنين مهنا يحتاجها الناس لئلا يُعلوا على الناس أثمانها، ويقول ابن القيم: “ومن هاهنا منع غير واحد من العلماء كأبي حنيفة وأصحابه، القاسمين الذين يقسمون العقار وغيره بالأجرة أن يشتركوا، وأنهم إذا اشتركوا والناس يحتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجرة..” (الطرق الحكمية)، ويضيف قائلا: ” وأيضا إذا كانت الطائفة تشتري نوعا من السلع أن تبيعها قد تواطؤوا على أن يهضموا ما يشترونه بدون ثمن المثل ويبيعونه بأكثر من ثمن المثل، ويقتسموا ما يشتركون فيه من الزيادة كان إقرارهم على ذلك معاونة لهم على الظلم والعدوان.. ولا ريب أن هذا أعظم إثما وعدوانا من تلقي السلع وبيع الحاضر للبادي ومن النجش” (الطرق الحكمية).
وكلام ابن القيم يصدق كثيرا على ما نشاهد اليوم من معاملات يتواطأ فيها البائعون والمشترون من أجل خفض الأسعار أو رفعها حتى أصبحت السوق العالمية حكرا على بعض الشركات، كما يصدق أيضا على تجار الأسواق الذين يستغلون ضائقة المسلمين في حاجتهم إلى طعام للرفع من ثمنه متجاهلين الوعيد الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس” (نيل الأوطار).