- عبد اللطيف شهبون
فلربتما فاض المحيـــا ببحور الموج من اللجج
فلربتما :
الفاء حرف عاطف لجملة أو صفة ؛ يفيد ترتيبا وتعقيبا وسببية.. وهو في البيت مفيد لسببية .
واللام تعليلية .. ورب حرف خافض للنكرة ، وهو في حكم الزوائد ، متى لحقته ما الزائدة كفته عن العمل
وقد تلحقه تاء التأنيث ، ويأتي للتقليل أو التكثير ، وهو مفيد في البيت للتكثير
فاض :
سال من السيلان أو مما يدخل في معاني : الطفح والكثرة والنشر والاتساع . وفي البيت تخييل دال على انفعال وتعجب وتعظيم.. ومن وظائفه الجمالية انهاض السامع أوالمتلقي بتصوير شيء ، حتى يتوهم أنه صورة تشاهد أو مظهر يعاين ، وهو داخل في باب الايهام والتورية .. والبلاغيون المعياريون توسعوا في الكلام عن التخييل في تطرقهم للتشبيه ، وتمييز الفرق بين معان عقلية ومعان تخييلية..
يقول الزمخشري : “ لا ترى بابا في علم البيان أدق ولا أرق ولا ألطف من هذا الباب..” يقصد باب التخييل
المحيـا :
محل الحياة ؛ ومحل الحياة القلب ؛ وفي البيت استعارة مكنية ؛ حيث شبه القلب المعبر عنه بالمحيا بواد ذي ماء كثير ؛ بجامع بينهما هو اشتمال كل منهما على ما به الحياة ؛ فالواد مشتمل على الماء الذي به حياة البدن ؛ والقلب مشتمل على المعارف التي بها حياة النفس والروح..
بحور :
ماء واسع ، كثير، منبسط ، غور.. وبحور مفردها بحر ، تجمع على أبحر وبحور وبحار..
الموج :
ارتفاع الماء واضطرابه وتتابعه.. يجمع الموج على أمواج ؛ والمقصود ببحور الموج المعارف العظيمة والأنوار الغزيرة ، وفي هذا استعارة تصريحية..
اللجج :
معظم البحر وتردد أمواجه ، مفرده لجة ، وجمعها لج ولجج ولجاج ؛ قال تعالى: ” فلما رأته حسبته لجة ”
وقال تعالى : ” أو كظلمات من بحر لجي ، يغشاه موج من فوقه ” وبحر لجي هو بحر عميق لا يدرك قعره.. والبحور والموج واللجج تراشيح ؛ يراد بها بيانيا تقوية صورة التشبيه والاستعارة ؛ بتوظيف أكثر من صفة للمشبه به أو المستعار ، وكأنه المراد في تصوير معنى المشبه به أو المستعار..
وفي البيت اشارة الى مقام الشكر بدلالتيه اللغوية والعرفية :
- الأولى :
أنه فعل منبن على تعظيم المنعم ؛ قولا باللسان ؛ نحو : الحمد لله ؛ وفيه ورد ” أفضل الذكر : لا اله الا الله ، وأفضل الدعاء : الحمد لله ، أو خدمة بالأركان أو اعتقادا بالجنان “
- الثانية :
أن يصرف العبد ما أنعم الله به عليه ؛ من سمع وبصر وغيرهما.. الى ما خلق من أجله ؛ وما خلق من أجله هو الطاعة ؛ والطاعة سلامة الأحوال والأوقات من كل مخالفة.. ومشكاة المعنى الامتثال للأمر ؛ فمتى امتثل القاصد لأمر: فاقصد محيا ذاك الأرج ، حصلت له حياة قلبه. ونبراس حياة القلب هي التقوى ؛ وهي :
- احتراز بطاعة الله عن عقوبته..
- اخلاص في حال الطاعة..
- حذر في حال المعصية..
- ترك لحظوظ وهوى النفس..
بهذه المنازل تفيض على قلب القاصد علوم وهبية ؛ مصداقا لقوله تعالى : ” واتقوا الله ، ويعلمكم الله ، والله بكل شيء عليم “ ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه “.
وقد عبر ابن النحوي عن هذه النعم بالفوائد ؛ وفوائد مولانا جمل..وفي شكر الله على نعمه سبب في حياتها وبقائها ؛ مثلما أن ترك الشكر سبب لموتها وزوالها ؛ مصداقا لقوله تعالى : ” لئن شكرتم لأزيدنكم ، ولئن كفرتم ان عذابي لشديد “
وفي الحكم العطائية :” من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها “.
بين قول ابن النحوي : ” فلربتما فاض المحيا..” ومعنى سابق : ” فاقصد محيا ذاك الأرج ”
علاقة سببية مؤداها : أيها القاصد ، متى شكرت الله على نعمه امتثالا لأمر : فاقصد محيا ذاك الأرج ..نشأت بحور كثيرة مثل بحور الموج..ومن فضل الحمد والشكر على النعم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ان الله يحب الحمد يحمد به ليثيب حامده ، وجعل يحمد لنفسه ذكرا ولعباده ذخرا ” وقوله عليه الصلاة والسلام :” ما أنعم الله على عبد من نعمة صغرت أو كبرت ، فقال : الحمد لله الا كان قد أعطى أفضل ما أخذ ” وقوله عليه الصلاة والسلام : ” المؤمن كله خير ؛ ان أصابه فشكر ، كان خيرا له ، وان أصابه شر فصبر كان خيرا له “
والشكر ثناء على المحسن واقرار بنعم المنعم ؛ وهو الخالق تعالى ؛ وهو شكر بدني لا تستعمل فيه الجوارح الا في طاعته تعالى ، وشكر قلبي لا ينشغل فيه العبد بغير ذكر الله..
الذكر مفتاح خيرات..