ترجمة
د.محمد مشبال
د.عبـد الواحد التهامي العلمي
Philippe Breton, L’argumentation dans la communication, Quatrième édition, La Découverte, Paris, 2006.
مقدمة المترجمين: (1)
لم تعد البلاغة محصورة في الأنواع الخطابية القديمة التي حددها أرسطو في الخطاب السياسي والخطاب القضائي والخطاب الاحتفالي، بل إنها ماثلة في كل الخطابات التي يتواصل بها الناس في أمور دنياهم العملية والثقافية؛ فالرجل عندما يحاول إغراء الفتاة الجميلة، والمراهقة عندما تحاول إقناع أبويها للسماح لها بالخروج في المساء، وصاحب المطعم عندما يغري زبناءه ويقنعهم بما يعرضه عليهم من وجبات، والأستاذ عندما يسعى إلى إقناع تلاميذه، والمثقف عندما يروم إقناعنا بصحة رؤاه..كل هؤلاء يستخدمون في تواصلهم الحجاج ويمارسون فن الإقناع؛ أي باختصار يتحولون إلى بلاغيين.
تعني البلاغة إذن التحكم في إمكانات اللغة لأجل التواصل مع الآخرين وإقناعهم بوجهة نظرك أو رأيك أو موقفك أو سلوكك أو أطروحتك. وفي جميع الأحوال تتحرك البلاغة في دائرة الرأي؛ إننا لا نحاجج الآخرين في الحقائق العلمية الصحيحة أو القابلة للبرهنة الحاسمة، لأن مدار الحجاج على الرأي المحتمل الذي لا يمتلك دقة الحقائق العلمية، بيد أنه من جهة أخرى لا يعرى عن القوة والفعالية في الحياة الاجتماعية اليومية. قد يعوزنا الاستدلال بالمعنى العلمي الصارم على صحة رأي ما؛ فنحن لا نستطيع أن نبرهن علميا على صحة القول بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو على صحة القول بحرية الإنسان في إبداء الرأي، أو على صحة القول بضرورة تطبيق الديموقراطية في البلدان المتخلفة، أو على صحة القول بضرورة احترام الآباء، وغيرها من الأقوال والآراء التي لا يمكن الغمز في قوتها أو سريانها في المجتمعات، على الرغم من أنها لا تخضع بالضرورة للاختبار العلمي. ولكن هل يستطيع العلم أن يحسم مشكلات الإنسان العملية والعقدية وأن يدلي بدلوه في شؤون حياة الناس الاجتماعية والإيديولوجية؟ هل يملك القبض على حقيقة الإنسان وجوهره؟[1]
لقد أدرك الإنسان اليوم أن العلم لا يمكنه أن يحل مشكلاته العملية اليومية التي يواجهها في الحياة، كما ثبت لديه أن توصيل آرائه-التي لا يستطيع أن يحيا من دونها- يحتاج إلى وسيلة أكثر إنسانية تنأى به عن صرامة العلم وتجنبه أساليب الإكراه والتطويع وكل ما يشير إلى عنف الخطاب الذي لا يبتعد كثيرا عن العنف الجسدي. من هنا تنبثق أهمية البلاغة بوصفها الأداة الأكثر إنسانية في تواصل الأفراد داخل المجتمع وتواصل الشعوب داخل هذا العالم الذي يحتويهم.
لقد شكلت البلاغة والحجاج قطيعة مع التصور الديكارتي[2] للعقل الذي ساد في الفلسفة الغربية لعقود من الزمن، وهو التصور الذي كان يرى أن العقلانية مفهوم مطابق للمناهج العلمية، وأن الأدلة المقبولة هي الأدلة التي تحظى بتقدير العلوم الطبيعية، أما الحجج المبنية على ما هو محتمل فإنها تجافي الحقيقة ولا ينبغي الاعتداد بها. إن البلاغة ونظرية الحجاج تقران بأن العقل بالمفهوم الديكارتي لا يتمتع بالكفاية في مجالات غير خاضعة للحساب مثل المجال الإنساني الذي يستمد فيه الحجاج قوته من تأثيره في المتلقي وليس من صرامته أو مطابقة محتواه للوقائع.
واضح أن المقصود بالبلاغة هنا ليس مفهومها المدرسي[3] الذي استقر في الثقافة العربية الحديثة، وليس مفهومها الذي ساد أيضا في الثقافة الغربية منذ القرن السادس عشر[4] واستمر حتى أواخر القرن التاسع عشر؛ أعني مفهومها الذي اقترن بالكفاية الأسلوبية والقدرة على تنميق الكلام واستخدام أفانينه الساحرة، بل المقصود بالبلاغة نظرية في الخطابات التواصلية؛ سواء أكانت كلاما عاديا بين أفراد المجتمع أم خطابات سياسية ودينية وقضائية وحقوقية واجتماعية وأدبية[5]. إنها البلاغة التي أسسها أرسطو في كتابه “فن الخطابة” واستمرت بعده مع شيشرون وكونتيليان وغيرهما، إلى أن حدث ما حدث من تعرضها للاختزال ثم إلى الاختفاء أو الأفول بعد ذلك لعدة أسباب يلخصها أوليفيي ريبول Olivier Reboul [6]في عاملين؛ أحدهما، هيمنة النزعة الوضعية التي رفضت البلاغة باسم الحقيقة العلمية، وثانيهما، ظهور المذهب الرومانسي الذي رفضها باسم الصدق .
ولم تعرف البلاغة انبعاثا إلا في أواخر الأربعينات ونهاية الخمسينات من القرن العشرين، وتحديدا مع ظهور كتاب كورتيوس E.R.Curtius “الأدب الأوروبي والعصر الوسيط اللاتيني” (1948) الذي ترجم إلى الفرنسية سنة )1956(، وهو الكتاب الذي استخدم فيه صاحبه مفهوم “المواضع المشتركة” وهو أحد أبرز مفهومات الحجاج. وفي سنة (1958) ظهر كتابان سيكون لهما تأثير واسع على كل الدراسات البلاغية والحجاجية التي سيتوالى ظهورها في وقت لاحق وخاصة في التسعينات وحتى الآن؛ يتعلق الأمر بكتاب “مصنف الحجاج: البلاغة الجديدة” لحاييم بيرلمان C.Perelman ولوسي أولبرخت تيتيكا L.Olbrechts-Tyteca وكتاب “استخدامات الحجاج” لتولمين S.E.Toulmin. دون أن نغفل الدور الذي اضطلعت به التداوليات[7] La pragmatique في تغذية الدراسات البلاغية الحجاجية؛ فقد أدى نمو هذا الحقل الذي قام على دراسة اللغة في السياق وربط اللغة بمستعمليها، إلى إحداث مفهومات استثمرتها الدراسات الحجاجية من قبيل مفهوم نظرية أفعال اللغة عند أوستين J.L.Austin (1962) وسورل J.R.Searle (1969)[8].
ومع ذلك لم تسمح فترة الستينات والسبعينات-على الأقل في فرنسا[9]– بازدهار البلاغة ونظرية الحجاج، لأنها كانت فترة انتشار البنيوية التي لم تكن لتفسح المجال لظهور مفهومات البلاغة والحجاج من قبيل “مقصدية المؤلف” و”المتلقي” و”الموقف التواصلي”[10] وغيرها من المفهومات التي تتعارض مع المبادئ التي نادت بها. وحتى عندما ظهر كتاب “البلاغة العامة”[11] لجماعة مو( 1970 ) فإنه لم يكشف عن أية علاقة بالبلاغة كما عهدناها مع أرسطو؛ أي من حيث هي نظرية في الحجاج، بل كان مجرد إعادة صياغة على أسس لسانية بنيوية حديثة للمصنفات البلاغية الكلاسيكية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر التي انشغلت بالوجوه الأسلوبية، على نحو ما صنع دومارسي Dumarsais في كتابه عن “المجازات” (1730) وفونطانيي Fontanier في كتابين[12]؛ أحدهما عن الصور المجازية (1821) والثاني عن الصور غير المجازية (1827).
[1] في هذا السياق ينبغي فهم دعوة منظري البلاغة الجديدة أو نظرية الحجاج إلى استكمال نظرية البرهان في المنطق الصوري بنظرية الحجاج التي تتولى دراسة الاستدلالات الجدلية التي تسعى إلى قبول أو رفض الأطروحة المتنازع حولها؛ فإذا كان البرهان ينطلق من الحقيقة الواضحة، فإن الحجاج ينطلق من الرأي المحتمل الذي يستمد قوته من قبول الناس له. وعلى هذا النحو فإن الحجاج ضروري بالنسبة إلى المجالات العملية كالأخلاق والسياسة؛ حيث لا يمكن تجنب الاختيار والتناظر حول الرأي الأفضل والأقوى.
[2]Chaim Perelman et Lucie Olbrechts-Tyteca, Traité de l’argumentation, editions de l’université de Bruxelles,2000. pp.1-13.
[3] سبق لجيرار جينيت أن نعت هذه البلاغة االمدرسية ب”البلاغة الضيقة” وكان يقصد بهذا الوصف، أن البلاغة التي كانت مع أرسطو وغيره من البلاغيين اليونان والرومان تعنى بالخطاب في كافة مستوياته أو أجزائه (الحجج والترتيب والأسلوب والذاكرة والفعل) أصبحت في العصر الحديث بلاغة تعنى بالأسلوب أو فن العبارة فقط، بل بجزء من الأسلوب هو الاستعارة. وهو ما يمكن تفسيره باستيلاء الخطاب الأدبي على النظرية البلاغية التي أصبحت نظرية في الأدب وليس نظرية الخطاب الإقناعي .
[4] Chaim Perelman et Lucie Olbrechts-Tyteca,op, cit, P. 20.
يذكر بيرلمان وغيره من دارسي البلاغة أن موتها بدأ في القرن السادس عشر عندما حصر بيير دي لارامي Pierre de la Ramée في كتابه “الجدل”(1555) البلاغة في دراسة فن العبارة؛ أي المحسنات الأسلوبية، منتزعا منها مكونين جوهريين من مكوناتها وهما الإيجاد والترتيب. وبذلك فصل البلاغة عن الجدل، ليحدد وظيفتها في دراسة وسائل التعبير الجميلة بدل أن تكون دراسة للحجاج. هذا الفصل الحاسم سيتلقفه صديق لهذا الفيلسوف يدعى أومير طالون Omer Talon الذي قام في ألمانيا بنشر أول بلاغة بمعناها الضيق المحصور في الصور (1572).
[5] ليس المقصود هنا بالخطابات الأدبية الخطاب الاحتفالي الذي أشار إليه أرسطو بوصفه أحد أنواع الخطابة في عصره فقط، ولكن المقصود أيضا ما يتخلل الأعمال الأدبية من بعد بلاغي حجاجي؛ فقد استمد أرسطو معظم شواهده البلاغية من نصوص مسرحية، كما أن بيرلمان وغيره من البلاغيين المعاصرين يعتمدون الأعمال الروائية والمسرحية والسينمائية مصدرا لعرض مادتهم البلاغية، على نحو ما فعل فيليب بروطون في هذا الكتاب.
[6]Olivier Reboul, Introduction à la rhétorique, PUF, 1991.pp. 90-91.
[7]Christian Plaintin, L’argumentation, éditions du Seuil, 1996. P.12.
[8] ترجم كتاباهما إلى الفرنسية في بداية السبعينات؛ ترجم كتاب أوستين “عندما نقول فإننا نفعل” سنة 1970 ، وترجم كتاب سورل “أفعال اللغة” سنة (1972)
[9] يذكر مؤرخو البلاغة الغربية أن العالم الأنجلوسكسوني لم يشهد قطيعة تامة مع البلاغة القديمة بخلاف ما حدث في فرنسا.
[10] على الرغم من هذه النزعة البنيوية العامة التي سادت في فترة الستينات في فرنسا، إلا أنه مع مطلع السبعينات ظهرت مؤلفات أعادت الاعتبار للبلاغة القديمة (أي البلاغة الحجاجية) على الرغم من أنها لم تستطع أن تحدث تأثيرا وتخلق اتجاها بلاغيا حجاجيا في فترة ظهورها. أشير هنا على سبيل المثال إلى هذين الكتابين:
Roland Barthes, L’ancienne rhétorique : Aide-mémoire, in Recherches rhétoriques, Communications, 16. éd. Seuil 1994.
الكتاب في الأصل دروس ألقاها بارت في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا بباريز(1964-1967) عن البلاغة القديمة وقد أعاد صياغتها ونشرها في مجلة “اتصالات” 1970.
Kibédi Varga, Rhétorique Et Littérature, DIDIER, Paris 1970.
يعد كيبيدي فاركا أحد البلاغيين المعاصرين الذين اهتموا منذ فترة مبكرة بتطبيق البلاغة الحجاجية في تحليل نصوص أدبية وفنية. ويعد كتابه “البلاغة والأدب” محاولة مبكرة في العالم الناطق بالفرنسية لبعث للبلاغة القديمة والعمل بمبادئها في تحليل نصوص الأدب الكلاسيكي الفرنسي.
[11] Groupe Mu, Rhétorique générale,éd. Seuil. 1982.
صدرت الطبعة الأولى سنة 1970
[12] قام جيرار جينيت بجمع هذين الكتابين المتكاملين في مصنف واحد نشره بعنوان “صور الخطاب”:
Fontanier, Les figures du discours , Flammarion , Paris 1977