سنتان ليستا كباقي السنوات، رمضان ليس كسابقي سابقه؛ رمضان بدون ليله المفتوح على المحيط العائلي والاجتماعي، على المساجد والزوايا، على مجامع الذكر والمذاكرات. ليلة القدر دون نسائم المسك في الأزقة والأحياء، دون طيب البياض، دون بهجة أعراس الصيام، تفاصيل كثيرة افتقدناها ولم يكن ذلك في الحسبان.
من ذا الذي يصدق القائل إن التفاصيل ليست ذات قيمة، غير مهمة، لنمر إلى الأشياء الكبرى؟. بلى؛ في التفاصيل تكمن الحياة؛ حينما غابت التفاصيل أدركنا أن الأشياء الكبرى تبدو بعيدة و أن الأشياء الصغيرة التي تهرب من بين أيدينا، وتصنع يومياتنا و أيامنا المختلفة أو المتشابهة، هي ملح الحياة.
إذن الحرية هي الأصل، و على وعينا المستلب أن يعيد قراءة الأشياء والأحداث، أن يستوعب ماهية المقاومة سواء أكانت من فرد أم جماعة أم شعب أم أمة بحثا عن الحرية المفقودة التي تمت مصادرتها جزئيا أو كليا، ظرفيا أ و باستمرار، بالقوة أو اللين، بالقهر أو القانون..
في الظرف الحالي الذي يشكل استثناء في العالم كله، حتى في البلدان التي تحرص على رفع راية الحرية، وجعلت منها النسغ الذي تقوم عليه أنظمتها، توقفت الكثير من الحريات أو تقيدت و تقلص منسوبها : حرية التنقل، حرية التجول، حرية التجمع، حرية التجارة والخدمات، حرية العمل، حرية ممارسة الشعائر الدينية الجماعية إلخ، ومع أن تقييد الحريات يصاغ في قوالب قانونية معقولة يجمعها مفهوم حالة الطوارئ الصحية الذي له مسوغاته المنطقية ومبرراته الواقعية، فإن الكثير من الناس يسائلون الدولة و ينتقدون بعض قراراتها أو كلها من حيث التوقيت أو الجدوى، والدولة تعتذر و توضح وتعلل وتعوض، ولو أنها مؤتمنة على الصالح العام بتفويض من الشعب.
الخروج إلى المقهى أو المطعم أو السينما أو المسرح أو من أجل التبضع، السفر أو العمل، البيع والشراء، تقديم الخدمات، تنظيم الأفراح وإقامة المآتم، التلاقي والزيارات، المصافحة والعناق، والعيش بوجه مكشوف إلخ، عادات يمارسها الإنسان في أيامه العادية كجريان الماء دونما انتباه زائد، وحينما حرم منها لمدد زمنية متقطعة، طويلة أو قصيرة، صاحت الأفهام : إن الإنسان كائن اجتماعي، كما تعالت الأصوات : إنه كذلك كائن اقتصادي، فأصبحت حماية الحق في الحياة لا تكتسي معنى فيزيقيا فقط بل كذلك نفسيا واجتماعيا و اقتصاديا..
فلماذا يستكثرون على الشعب الفلسطيني، مقاومته من أجل الحرية؟، فبعد أن تآمروا و احتلوا وطنه، يمعنون، دون طوارئ صحية أو ظروف استثنائية، في مصادرة أبسط حقوقه “الصغيرة” وحرياته التي تشبه الهواء على مرأى ومسمع العالم المتحضر الذي يصدر مفاهيم وقيم الحرية، و الذي يتسابق ليل نهار لكي لا تغضب شعوبه لاستمرار التقييد الجزئي والظرفي لحرياته.
حكومات سقطت و أخرى ستسقط… بسبب النجاح أو الفشل في سياسة تدبير شؤون البلدان في ظرف الجائحة غير المسبوقة في زمن العولمة، ومقياس النجاح والفشل هو التمكن أو عدم التمكن من تحقيق التوازن بين حماية الحق الأساسي في الحياة وحماية باقي الحريات الفرعية.
ما يحير هو كيف لم يهتد الإنسان بعد، بعد قرون من التجارب المريرة والدروس التاريخية المستخلصة، إلى قيم عقلية إنسانية عامة تجنب التناقض و التعارض مع سلطة الدولة في ظروف الطوارئ والكوارث والأزمات الإنسانية التي تقتضي تنازل الأفراد الظرفي عن بعض الحريات “الصغيرة”..، وقيام الدولة كمؤتمنة على المصلحة العامة، ليس بتقييد هذه الحريات فقط بل كذلك، و من باب التضامن، تقييد حرية الملكية والتصرف كأب أسرة يحمي الجميع ويرعاه.
والمناسبة شرط، فالمحير بل المؤلم كذلك هو كيف لم تهتد الإنسانية بعد، إلى تمكين الشعب الفلسطيني من حقه على أرضه ووطنه.. رغم أنه حق واضح لا غبار عليه، جارح و صادح، يؤنب كل الضمائر الحية.؟.
لقد مر رمضان دون ليله الدافئ الخاشع، و ربما سيمر العيد دون بعض طقوسه الجميلة البهيجة، لكن كل شيء يهون من أجل تحقيق الانفراج الكبير، والرهان الأكبر هو هل ستتمكن حكومتنا، إذا طال أمد الوباء لا قدر الله، الاستمرار في تحقيق التوازن الضروري بين حماية الحق في الحياة وحماية الحريات وضمان سبل العيش الكريم، وبالتالي السهر على التضامن بين جميع فئات الشعب دون كلل أو ملل.
حفظ الله هذا البلد الأمين متنعما بالعزة و الأمن و الأمان.
وعيدكم مبارك سعيد.
عبد الحي مفتاح