يقدم كتاب “هذا الذي نسميه مسرحا…” للفقيد عبد المولى الزياتي رصدا دقيقا لإبدالات الحركة المسرحية وتطورها بمنطقة ليكسوس منذ الإرهاصات الأولى لميلاد هذه الحركة. وإذا كانت اهتماماتنا المعرفية لا تندرج في خانة العمل المسرحي، باعتباره أداة تعبيرية فنية وإبداعية خالصة، فإن الانفتاح على الكتاب يتيح إمكانية النهل من المضامين التوثيقية التي جمعها فنان اكتوى بنار الممارسة الجمعوية المباشرة منذ نهاية ستينيات القرن 20، وظل منذ ذلك التاريخ مرتبطا بالحركة المسرحية بمنطقة الشمال عموما، وبمدينة العرائش خصوصا، بحثا وتنقيبا وتأليفا وتنظيرا وتأطيرا وممارسة. إنه عمل يفتح الباب واسعا أمام جهود تنظيم الاشتغال على أرصدة التاريخ الذهني والثقافي والإبداعي الذي أنتجته المدينة على امتداد فترات زمنية طويلة، وذلك في إطار علاقات نسقية عرفت تداخل وتفاعل أبعاد سياسية وسوسيو اقتصادية وحضارية متباينة. وبديهي أن الإنتاج الإبداعي ما هو -في نهاية المطاف- إلا تأمل عميق في علاقة الذات بالواقع وفق رؤى تتجاوز الأحكام التقريرية المباشرة لتسمو بالقراءات وبأشكال التفاعل إلى مستويات إنسانية راقية تكتسب -في الغالب- كل مواصفات البقاء والخلود، وتعكس مظاهر شتى لجهود الإنسان من أجل تنظيم وعيه بذاته وبوسطه الضيق ثم بمحيطه الواسع.
وبخصوص سياقات وضع هذا التأليف، فقد لخصها المؤلف في مقدمة كتابه قائلا: “إن مواصفات وشروط البحث العلمي تتطلب من الباحث الانسلاخ عن الذات… وهذا ما نلاحظ غيابه في العديد من الدراسات والبحوث ضمن الكثير من المجالات وخاصة الميدان المسرحي، حيث نجد أن جل الباحثين فيه، يطرحون مشكل التأسيس والنشأة والبداية، انطلاقا من مسقط رأسهم، لاسيما إذا كان الباحث ينتمي لإحدى المدن المغربية الكبرى… علما أن هناك مدن وقرى صغيرة الحجم، لعبت دورا طلائعيا في تاريخ هذه الحركة، لكنها ظلت مغمورة في طي النسيان… الشيء الذي يتطلب القيام بالبحوث المونوغرافية المتخصصة في هذا المجال… من مختلف الأقاليم المغربية، آنذاك يمكننا الكلام عن تاريخ الحركة المسرحية بالمغرب وعن المسرح المغربي، بكل مقوماته التاريخية والثقافية والتراثية على مستوى التنظير والممارسة والكلام عن التجديد والتحديث والتأصيل والتجريب إلى غير ذلك… ومن هذا المنطلق، حاولت الخوض في هذه التجربة من منطقة الشمال، وبصفة خاصة من مدينة العرائش، التي كانت لها إسهامات كبيرة في فن العروض… حيث شاركت في تاريخ الحركة المسرحية قديما وحديثا، بدافع موقعها الاستراتيجي الذي جعل منها قبلة ومحجا للفن والفنانين…” (ص ص. 7-8).
صدر كتاب “هذا الذي نسميه مسرحا…” سنة 2002 في ما مجموعه 222 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، وبعنوان فرعي يختزل الخطوط العامة للبحث: “دراسة حول تاريخ الحركة المسرحية بمنطقة ليكسوس”. والملاحظ على الكتاب أنه لم يخضع لتبويب موضوعاتي يراعي التقسيمات المنهجية المفترضة في هذا النوع من الأعمال، بل انسابت مضامينه في شكل تجميع ركام غزير من المواد التنقيبية والتوثيقية لمحطات حاسمة في تطور الحركة المسرحية بمدينة العرائش، وخاصة بالنسبة لتلك التي ساهم المؤلف في صنع معالمها وفي رسم أبعادها. فبعد المدخل العام الذي وضح فيه المؤلف أهداف الدراسة وحدودها، نجد تشريحا دقيقا لتفاصيل سياسة الجهوية في الميدان الثقافي وعلاقتها بالتنمية المستدامة كما تم التخطيط لها ببلادنا خلال السنوات القليلة الماضية، وكما وجدت ترجمته في شكل العديد من الإطارات والتنظيمات مثل المجالس الجهوية للثقافة والفرق الجهوية للمسرح. وارتباطا بهذا الموضوع، اهم المؤلف بالتعريف بالقوانين المؤسسة للفرق الجهوية وكذا بتنظيم مهنة المسرح في بعديها الهاوي والمحترف. وبعد تفصيل الحديث عن الإشكالات الكبرى التي هيمنت على الحركة المسرحية الوطنية ببلادنا، مثلما هو الحال مع واقع الأزمة التي تعتري هذا المجال أو مع العلاقة مع الجمهور أو مع وضعية المسرح التربوي، انتقل المؤلف لتخصيص الحديث عن جهة طنجة-تطوان (سابقا)، وخاصة على مستوى التقسيمات الإدارية وعلى مستوى التراكم المعرفي والإبداعي والثقافي الذي حققته حواضر المنطقة، ثم على مستوى التعريف بأهم الجمعيات المسرحية بمدن طنجة، أصيلا، تطوان، الفنيدق، العرائش، القصر الكبير، وشفشاون.
وللاقتراب أكثر من الموضوع الأساسي للكتاب، انتقل عبد المولى الزياتي إلى الكشف عن أشكال تداخل الأسطورة والتاريخ في ماضي مدينة ليكسوس، وكذا عن تداخل الأسطورة والبحر في ماضي العرائش وحاضرها. في هذا السياق، سعى المؤلف إلى التعريف بأهم العادات والتقاليد التي عرفتها المدينة، مثلما هو الحال مع شعبانة أو مع طقوس حفل الزفاف. ومن أجل توسيع الحديث عن الطقوس المسرحية بمنطقة الشمال، اهتم المؤلف بالتعريف بأدوار الطوائف الدينية العيساوية والحمدوشية والجيلالية والكناوية، إلى جانب وظائف كل من المسيد والعمارة والموسم، وخاصة موسم مولاي عبد السلام بن مشيش. وارتباطا بنفس الموضوع، قدم المؤلف معطيات توثيقية هامة حول أهم الظواهر المسرحية بالشمال، مثلما هو الحال مع الفرايجية ومع باجلود ومع موكب البحارة…
وفي سياق آخر، استفاض عبد المولى الزياتي في تتبع أهم المحطات التاريخية التي واكبت تطور الحركة المسرحية بمدينة العرائش، معرفا بالرواد الأوائل لهذه الحركة وخاصة مع مسرح البساط ومع مختلف الفرق التي ظهرت بالمدينة منذ سنة 1942. كما سعى إلى تجميع مختلف النصوص المسرحية ذات الصلة، وإلى التوثيق لأهم العروض المسرحية العربية التي قدمت بالمنطقة الشمالية. واستكمالا لحلقات هذا المجهود المتميز، سعى المؤلف إلى التعريف بمضامين التراكم المسرحي الذي قدمته المدينة خلال النصف الثاني من القرن 20، مركزا حديثه -في هذا الباب- على المساهمات المتميزة لبعض الجمعيات الرائدة مثل الفرقة الأدبية للتمثيل والموسيقى، وكذا على الأدوار المبادرة التي اضطلعت بها بعض شخصيات المدينة مثل المبدع الراحل عبد الصمد الكنفاوي. وقد أنهى المؤلف كتابه بتقديم باقة من النصوص الشعرية والأعمال التشكيلية والصور الفوتوغرافية التاريخية التي استلهمت مضامينها من فضاءات مدينة العرائش، مقدما تعريفا بأعلام بارزة في مجالات الإبداع والعطاء، ارتبط اسمها باسم المدينة كما هو الحال -مثلا- مع جان جنيه ومحمد مامون طه وأحمد الدمناتي…
وبذلك قدم عبد المولى الزياتي عملا غير مسبوق، ساهم في توفير العناصر الضرورية لدراسة مجال تطور الذهنيات وأنساق الإبداع والتفكير الجماعيين بمدينة العرائش. وعلى الرغم من بعض الملاحظات المرتبطة ببعض الاضطراب الوارد في أسماء بعض الأعلام، كما هو حال أحمد عبد السلام البقالي الذي ورد ذكره في الصفحة رقم 56 باسم محمد عبد السلام البقالي، أو كما هو الحال مع غياب أسماء بعض الفرق عن لائحة الجمعيات المسرحية بجهة طنجة- تطوان، أو مع الخلل المنهجي الناتج عن غياب التبويب الموضوعاتي الدقيق، فالمؤكد أن العمل يكتسي قيمة توثيقية كبرى، ليس فقط بالنسبة للمكتوين بنار الممارسة المسرحية اليومية، ولكن كذلك بالنسبة لعموم المؤرخين المشتغلين على التراث الثقافي والحضاري الذي راكمته مدينة العرائش على امتداد الفترات الزمنية الطويلة الماضية.
أسامة الزكاري