الإبحار من جدة
أقلعت بنا الباخرة على الساعة 10 من صبيحة يوم الخميس 20 ذي الحجة بين هبوب الرياح الشديدة، ثم بعد ذلك سكن البحر واستقام حاله إلى أن قربنا من جبل الطور مساء الأحد 23 ذي الحجة وكانت تمشي على معدل 7 أميال في الساعة، عوضا عن 12 ميلا الذي هو معدل مسيرها الاعتيادي والمراد، بذلك أنها تبطىء وصولها عنوة للطور حتى تسبقها إليه باخرة زمزم المقلة للمصريين ليجري عليها الفحص الطبي قبل غيرها، بمعنى أن زمزم إذا وصلت قبلنا وأعلنت مصلحة الطور سلامتها من الأمراض، استبشرت باخرتنا باقتفاء أثرها وكذلك كان الحال، فقد وصلنا إلى الطور بعد خروج زمزم منه في صبيحة يوم الإثنين 24 ذي الحجة على الساعة 9 وكانت المدة التي قضيناها في تلك المسافة ـ المطولة ـ كلها عامرة بالطرب والضرب على البيانو بنقرات المطرب الأديب القبطان بن داوود ومشاركة بعض الشبان من المغاربة وغيرهم، وقد كان من جملة الرفقاء الأفاضل السيد الفاتحي ابن كيران امين ديوانة الدار البيضاء والشريف سيدي عبد اللطيف الصقلي العدل بالديوانة المذكورة والمحامي الأستاذ السيد أحمد زروق والمترجم السيد ابن كرديل والأجل السيد محمد بن جدية وغيرهم، كما كان يرافقنا فيها علماء أجلة من الشام وغيرها، وحضرنا في هذه البرهة لمناظرة علمية جرت بين الأستاذ السيد عطاء الله الصابوني صاحب مجلة الفجر ومدير مجلة المرآة بحلب وبين أحد الشيعيين ومشاركة الدكتور شريف مدير كرنتينة بيروت، وكان محورها يدور حول سؤال ألقاه الشيعي في موضوع رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبعض المسائل الشرعية، وكانت المذاكرة في الموضوع جارية تحت جو الصفاء والإنصاف والاستدلال بالقرآن الكريم والأحاديث الشريفة وإيراد قواعد المنطق والمعقول، كانت الحجة القوية حليفة أهل السنة ووقوف الشيعيين أمامها وقوف العاجز المعترف بالتقصير.
كرنتينة الطور
رست بنا الباخرة في مرسى الطور على بعد اليابسة بنحو 100 متر تقريبا، وكان البحر إذ ذاك في هيجان كبير فصعد إلى ظهرها رئيس الكرنتينة الفرنساوي، وبعد إلقائه نظرة إجمالية على الحجاج واستنتج سلامة حالتهم الصحية تخابر تلغرافيـا مع الإدارة المركزية بالإسكندرية فتقرر نهائيا أن لا بد من نزول جميع الحجاج للاستحمام بالطور ثم الرجوع حينا إلى الباخرة، مع الترخيص لهم في عدم إنزال أثقالهم، إذ من العادة في السنوات الماضية عند وجود بعض الأمراض في الباخرة أن ينزل الحجاج بجميع أثقالهم، وأن يقيموا هناك عدة أيام، وفي ذلك من الأتعاب ما لا يخفى، فحضرت عدة قوارب كبيرة كان يتلاعب بها الماء على عظمتها، ونزل فيها الحجاج جماعات جماعات مع حصول بعض المشقة في ذلك، فرست بنا محاذية لرصيف الديوانة، ومنه سرنا إلى محل الكرنتينة على بعد نحو المائة متر في نفس المرسى، وهو كما لا يخفى من المؤسسات المتفق عليها بين الدول، وهو عبارة عن بناية عصرية واسعة تحتوي على عدة بيوت منها ماهو خاص بالأطباء ومنها ماهو خاص باجتماع الحجاج لعرضهم على الفحص الطبي عند الحاجة، وأخرى للاستحمام بالرشاشات مع بعض المرافق لنزع الملابس وارتداء بزي الاستحمام الخاص، ثم بيوت أخرى كبيرة فيها الآلات البخارية لتبخير حوائج الحجاج وتطهيرها، وعلى قرب من هذه البناية توجد بنايات أخرى محتوية على عدة بيوت يقيم فيها الحجاج بضعة أيام فيما إذا دعت الضرورة إلى ذلك عند ظهور بعض الأمراض المخطرة بهم وهي كبيوت الأوتيلات وبالقرب منها توجد حوانيت للبيع والشراء في كل ما يلزم من الضروريات مدة المقام هناك. هذا ولما وقفنا على أبواب محل الكرنتينة صفوفا صفوفا على حسب البلادات والأقطار، صدر الأمر لكل جماعة بالدخول عند دورها، ولما اجتمعنا في ساحة الفحص الطبي صدر أمر الرئيس -وهو من الفرنساويين- بالدخول إلى الحمامات، فدخل الحجاج أولا بيوتا نزعوا فيها ثيابهم فوضعت في شبكات من بالدخول إلى الحمامات فدخل الحجاج أولا بيوتا نزعوا فيها ثيابهم، وقد جعلت عليها نمرات وأعطي نظير كل منها لكل حاج ليطلب بمقتضاها حوائجه بعد تبخيرها وخروجه هو من الحمام، وما كان عندهم من الأوراق والدراهم وضعوها في علب من النحاس وحملوها فارتدوا المآزر ودخـلوا لبيوت الرشاشات واستحموا فيها بماء دافء قد مزج ببعض الأملاح المعدنية فراقهم ذلك جدا وخرجوا من جهات أخرى مسرورين منشرحين، ولما علمنا منهم ذلك أسفنا لعدم الدخول معهم لأنه كانت بيدنا وصاية من سعادة سفير فرنسا بمصر المسيو كايار لرئيس الكرنتينة، فرخص لنا المرور بعدم الاستحمام، لأننا كنا نظن أن هناك مشقة لا نطيقها. وقد نشرنا في محل آخر مثالا من هذه الوصاية شكرا لجناب السفير المذكور وإظهارا لعناية رجال فرنسا بأصدقائهم المغاربة، ولما خرجوا من بيوت الاستحمام اجتمعوا بقاعة واسعة وجدوا فيها حوائجهم قد خرجت من معامل التبخير ووزعت عليهم بمقتضى النمرات التي بيدهم ثم لبسوا ثيابهم وخرجوا من أبواب أخرى وعادوا إلى القوارب المذكورة التي نقلتهم إلى الباخرة. وعلى الساعة 5 من عشية ذلك اليوم واصلت سيرها إلى بيروت فوصلت بنا إلى السويس على الساعة 9 من صبيحة الثلاثاء 25 ذو الحجة فرست بنا في بحر هادي بعيدة عن الرصيف وليس في الإمكان لأحد أن ينزل منها للتراب المصري، ثم صعد إليها الطبيب، وبعد فحص الأوراق صدر لها الإذن بمواصلة سفرها، فأقلعت بنا على الزوال بعد خروج بعض البواخر من القنال، وقد ركب معنا أحد رؤساء المرسى لسلوك الطريق بها في القنال وفق القواعد المقررة في ذلك.
(يتبع)
محمد وطاش