من السويس إلى بيروت
ابتدأت بنا الباخرة دخولها في القنال بعد الزوال بربع ساعة من اليوم المذكور، فكان مرورنا فيه كأننا في واد، تارة ينعرج وتارة يستقيم وتارة يضيق وأخرى يتسع ثم تارة تكتنفنا جبال من الرمال على ضفتيه وأخرى سهول ومراسي صغيرة وأجنة غناء، وفي كل ذلك مناظر طبيعية تروق الناظرين ويعز وجودها في غير هذا المضيق الذي جعله مركزه الطبيعي طريق الوصل بين أوربا والهند وغيرها من الأقطار البعيدة، ولا شك أن كل من عبره يقدر قدر ذلك الرجل الفرنساوي العظيم الذي فتحه فأسدى به للعالم خدمة جليلة يخلد له ذكرها في سجلات التاريخ. وقد كنا تارة بعد أخرى نجد بعض البواخر الكبرى راسية في بعض المحلات الواسعة هناك تنتظر مرور باخرتنا، كما أن باخرتنا كانت تقف كذلك لانتظار مرور غيرها حتى لا يقع اصطدام لضيق القنال في بعض الجهات، وذلك كله بنظام تام تقوم به هیئات مكلفة به تحت إشراف إدارة دولية كبيرة مركزها في السويس، كما تقدمت الإشارة إليه. ولما جن الليل بظلامه أرسلت الباخرة نورا قويا من منار عظيم علق بمقدمها خصيصا لإنارة طريقها في الليل فكانت أشعته البيضاء تنبعث تارة على الأجنة بضفتي القنال وأخرى على القنال نفسه وما به من بواخر ومقاهي، فيتجلى في الأعين منظر جديد مع الأضواء من هنا وهناك، وهكذا سرنا نسامر صفاء مياه القنال ونجوم سمائه اللامعة إلى أن كانت الساعة 10 ليلا، فوصلنا إلى مرسى بورسعيد حيث مخرج القنال إلى البحر الأبيض المتوسط، ولم يكن فيه أيضا من سبيل لأي حاج في النزول إلى التراب المصري ما دام الإبان أبان الرجوع من الحج. ولا تسأل عن حسن ذلك المنظر البديع الذي تجلى أمامنا إذ ذاك من كثرة الأضواء الساطعة من جميع أنحاء المدينة والبواخر العديدة الراسية بمرساها، وبعد وقوفنا نحو الساعة، واصلت الباخرة سيرها نحو بيروت فدخلنا البحر المتوسط في ظلام حالك كأن ما تقدم من تلك المناظر البديعة لم يكن شيئا مذكورا ولجأ كل واحد إلى محل نزوله للنوم والاستراحة. ونقول بهذه المناسبة أن أصحاب الدرجة الأولى كانت لهم بيوت جلها اكتريت من بيروت ذهابا وإيابا عند خروج البولاق منها، بحيث أن كثيرا منا لم يحصل فيها إلا على الدرجة الثانية. ولكن لا بيوت فيها. نعم، تمكن بعضنا من كراء بعض البيوت الخاصة بخدمة الباخرة على حساب مائة فرنك لكل فراش واكتفى آخرون بتفريش قسم من سطح الباخرة الأعلى الخاص برؤسائها مقابل نحو القيمة المذكورة، ومع ذلك كنا نكتفي بالبقاء في قاعات الأكل والتدخين والاستراحة ونبيت على كراسيها المستطيلة، إذ كلها مباحة لأصحاب الدرجتين الأولى والثانية على حد السواء، وكثير من أصحاب الدرجة الأولى كانوا يخيرون البقاء فيها عن الدخول إلى بيوتهم، أما الأكل فقد ذكرنا أن الكراء لا يشمله سواء بالدرجة الأولى أو بالثانية فكنا نتناول الطعام في أوقاته الثلاثة صباحا وزوالا ومساء بدل عشرين فرنكا في اليوم مع شرب الأتاي والمربيات في العصر.
وفي الساعة 10 من صبيحة يوم الأربعاء 26 حجة كان وصولنا إلى بيروت فدخلنا مرساها المعدود من أكبر المراسي الشرقية والمدينة تمر أمام أعيننا في حلتها البديعة التي وجدنا نفسنا فيها أشبه شيء بالداخل لمرسى طنجة، خصوصا تشابه جبليهما الشهيرين. وقد رست بنا الباخرة مع على بعد يسير من اليابسة قرب محل الكرنتينة الذي لا سبيل للحجاج إلى الدخول إلى بيروت إلا بعد العروج عليه فحضرت القوارب ونزلنا فيها إلى المحل المذكور وبمجرد ما وصلناه وأنزلنا رحلنا إلا ووجدنا تسميته بالكرنتينة من باب تسمية الأشياء بأضدادها، إذ كنا نظن كما يدل عليه اسمه أنه محل تمريض وتبخير وتضيق أو ما أشبه ذلك فإذا هو ما تشاء أن تعبر عنه من منتزه واسع الأرجاء أو بستان فسيح كأنه في أيام الربيع أو ملتقى الشعراء لتمعن أسرار الطبيعة المتجلية عليه من مناظر لبنان والبحر حين غروب الغزالة (الشمس) في أفقه أو قرية عصرية صغيرة جامعة بين بيوت من أحسن بيوت الأوتيلات وحوانيت حاوية لمختلف النعم واللحوم الطرية ومطاعم لتهيئة الطعام ومقاهي للاجتماع ومسجد لطيف جدا لإقامة الصلاة. أما ما وجدناه فيه من العناية والبرور واللطف والمجاملة من رئيسه العلامة الدكتور شريف فشيء لا يجده إلا الولد من والده أو الصديق المخلص من صديقه. ولقد كان مقامنا هناك ثلاثة أيام كاملة عز علينا بعدها أن نفارق ذلك المكان لما كنا عليه فيه من التنزه والانبساط وقد زارنا فيه خلال هذه المدة جناب الحكيم الكولونيل ليون هامبير مارتان الفرنساوي مدير مصلحة الصحة لجيوش الشرق وطاف على جميع الحجاج للإشراف على حالهم فأظهروا له غاية الفرح، لما هم فيه، وأثنوا له ثناء عاطرا على همة جناب الدكتور شريف رئيس الكرنتينة كما شكروه هو على زيارته لهم وبعد ذلك صدر الإعلام بانتهاء مدة الكرنينة وكان أقارب الكثير من الحجاج قد تواردوا لاسقتبالهم، فحضرت السيارات والعربات وتفرق جمع الحجاج فذهب كل واحد إلى حيث شاء، وصادف الحال أن وصلت إلى بيروت، إثر ذلك، الباخرة الثانية القادمة من جدة فنزل منها في الكرنتينة المذكورة من جاء فيها أيضا من الحجاج للمقام بها مثل المدة التي قضيناها ثمه وهكذا من يأتي بعدهم في الباخرة الثالثة إلى انتهاء المدة المجعولة لذلك.
(يتبع)
محمد وطاش