في العاشرة وأربعين دقيقة من صبيحة الإثنين الماضي، دخل إلى عيادة طبيب اختصاصي، فوجدها غاصة برجال ونساء وأطفال، ينتظرون دورهم في قاعات الانتظار، وممرات العيادة ومدخلها، وفي المسالك المؤدية إليها.
استطاع أن يميز بين هذا الجمع الغفير، مكتبا تجلس في صدره كاتبة تقدم إليها، فسلمته رقما ظن في أول وهلة أنه رقم 16، لكن تبين له بعد إمعان النظر أنه رقم 61، فسألها متى يؤهله هذا الرقم لعرض نفسه على الطبيب؟ فأخبرته في تردد: في الثانية عشرة أو الثانية عشرة والنصف زوالا.
اتكأ على جدار لوقت لم يطل، لأنه لمح مقعدا شاغرا في قاعة غادرها مريض، فسارع إلى الجلوس، وتناول مجلة، ودفن رأسه فيها مستعجلا الوقت، ومتمنيا أن تدور عقارب الساعة لتصل إلى الوقت الموعود.
بعد نصف ساعة أو أكثر، سمع الكاتبة وهي تنادي صاحب رقم 44، فتأكد أنه لن ينعم برؤية الطبيب في هذا الصباح، وأن عليه أن يراجع السيدة الكاتبة، فأخبرته أن موعده قد يتأخر إلى الثانية زوالاً، لأن أصحاب التحاليل يعرقلون تسلسل الأرقام وتتابعها، ويضعونها في موقف حرج.
التمس منها أن تحدد له موعدا في أي يوم تشاء، وفي أية ساعة تشاء، من الصباح أو المساء.
حددت له اليوم والساعة، فشكرها وغادر العيادة وهو يتساءل: كيف يستطيع هذا الطبيب أن يفحص كل هذا العدد العديد من المرضى في وقت لا يتجاوز خمس ساعات؟ مِن أين له هذه الطاقة؟ وكيف يُقَسّمُ هذا الوقت الوجيز على هذا الجمع الغفير من الزبناء؟
ثم ما موقع المواعيد من الإعراب، إذا كانت باب العيادة مفتوحة في وجه الجميع؟
وفي الطريق، أخذ يسترجع صور وأسماء أطباء تردد عليهم في أوقات متباعدة، فلاحظ أن بعضهم كان يصر على تحديد مواعيد مضبوطة لمرضاه، إشفاقا عليهم، وتسهيلا لمأموريته ومأموريتهم، وأن بعضهم كان لا يفحص في الحصة الصباحية أو المسائية إلا عشر حالات فحسب، وأن بعضهم كان لا يحسب حساب الربح، بقدر ما يحسب حساب راحة مريضه وشفائه.
إنه ليستحضر اسم الطبيب الإسباني المتخصص في العيون الذي كانت مدة فحصه للمريض تقارب نصف ساعة. اسم هذا الطبيب “صويرو”.
إنهم ملائكة الرحمة، وملائكة الرحمة لا يمكن أن ينال من احترامنا وتقديرنا لهم، اجتهادُ مجتهد قد يجانب الصواب، ويخرج عن الجادّة، ويسابق الزمن.
ولكل قاعدة استثناء كما يقال.
مصطفى حجاج