يعد مصطلح ” الاستعمار” من المصطلحات التي سال فيها الكثير من المداد، سواء من جهة ربطه بالأصل اللغوي العربي الذي يحمل دلالات “إيجابية”، كالإقامة “الطبيعية”، والإعمار الحقيقي(المادي والمعنوي= الروحي)، أو من جهة ربطه بالآثار الناتج عن دخول القوى الغربية إلى العالم العربي- الإسلامي، الذي يحمل دلالات “سلبية” كالدخول بالقوة= القتل، والإعمار الموهوم= السراب.
وسأتحدث في هذا المقال عن الأمرين معا بإذن الله تعالى -قدر الإمكان_ وسأبدأ بالتأصيل اللغوي لمصطلح “الاستعمار”.
فالاستفعال مصدر استفعل، واستفعل من الفعل الثلاثي المزيد بثلاثة حروف، واسم الفاعل: مُستعمِر، واسم المفعول: مُستعمَر، واستعمر، أي أن الاستعمار مصدر استعمر، واسعمار (المكان…) يعمره، أي يسكنه ويقيم فيه([1]).
ومما يدل عليه فعل استعمر، الطلب، يقول الزمخشري:
“استعمر الله تعالى عباده في الأرض أي طلب منهم العمارة فيها”([2]) أي الإقامة فيها، باعتبارها وطنا.
كما ورد فعل استعمر في القرآن الكريم، يقول الله تعالى:
(هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ)([3]).
ولفعل”استعمر”، الوارد في هذه الآية الكريمة دلالات متعددة، منها:
- أعمركم
- أسكنكم فيها
- أعاشكم فيها.
- أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن،.. وألهمكم عمارتها من الحرث والغرس… وغيرها.
الاستعمار طلب العمارة ([4]).
وطلب العمارة فيها، أي الإقامة والاستقرار فيها، ويكون ذلك بما يحييها ويسهم في نموها، وبما يحفظ كرامة السكان، ويحترم كينونتهم، وليس القصد هو المكوث فيها، قصد نهب خيراتها، وإرسالها إلى من ينعم بها غير أصحابها الأصليين.
والاستعمار ضد الخراب فالسين والتاء للمبالغة. يقال: أعمر فلان فلانا في المكان واستعمره، أي جعله يعمره بأنواع البناء والغرس والزرع…([5]).
هذه بعض المعاني والدلالات التي يدل عليها مصطلح “الاستعمار” في معناه الأصلي الايجابي، إلا أن هذا المصطلح تم ربطه بالفعل الذي قام به الغرب من احتلال البلدان العربية الإسلامية، وإحلال قيم ومبادئ… مكان التي كانت، وخرب ودمر -قديما وحديثا-.
وليغطي الغرب عن مقاصده وأفعاله الإجرامية، استعار -ظلما وعدوانا- بدون موجب، هذا المفهوم للدلالة على الفعل الذي قام به في البلاد العربية الإسلامية (بشكل خاص)، قصد إيهام الناس (الشعب) بأن الغرب جاء ليعمر الأرض، ويطورها، وفي الصدد نجد الفيلسوف الألماني هيجل يقول:
“ولقد كان من الواجب ربط هذا الجزء من إفريقيا (المغرب العربي )بأوربا، ولا بد بالفعل أن يرتبط بها، ولقد بذل الفرنسيون أخيرا جهودا ناجحة في هذا الاتجاه. فهو –مثل آسيا الصغرى- يبدو متجها نحو أوروبا. هاهنا استقر القرطاجيون، والرومان، والبيزنطيون، والمسلمون، والعرب تباعا، كما ناضلت المصالح الأوروبية لكي تجد على هذه الأرض موطئا لأقدامها(…) والواقع أن ما نفهمه من اسم إفريقيا هو الروح غير المتطور الذي لا تاريخ له، ولا تطور أو نمو، والذي لا يزال منغلقا تماما وفي حالة الطبيعة المحض، والذي كان ينبغي أن يعرض هنا بوصفه واقعا على عتبة تاريخ العالم فحسب”([6])، وهنا يتضح أكثر أن ” الاحتلال” و”الاعتصاب” الغربي للدول العالم العربي الإسلامي كان بتشجيع وبمباركة ” العقل الفلسفي”.
وعلى هذا الأساس فإن “الاستعمار” بالمعنى العام الواقعي، يعني:
- “السيطرة التي تفرضها دولة قوية على أخرى ضعيفة، وهذه السيطرة قد تأخذ أشكالا مختلفة، مثل السيطرة العسكرية على البلاد أو السيطرة الفكرية والاقتصادية على الأمم المقهورة”([7]).
- اسـتيلاء دولـة أو شعب على دولة أخرى وشعب آخر لنهب ثرواته وتسخير طاقات أفراده والعمل علـى اسـتثمار مرافقه المختلفة([8]).
وقد اتخذ “الاحتلال” أشكالا متعددة، كــ”الحماية” و”الانتداب”…، لكن إذا أمعنا النظر في حقيقة وروح هذه الأشكال، فإننا نجدها، تودي نفس الغرض، وهو إخضاع الشعوب المستضعفة، ونهب خيراتها تحت العديد من الذرائع.
وإذا نظرنا إلي “الاستعمار” في بعده العملي باعتباره وسليه غربية للتفاعل الحضاري، من جهة، وارتباطه بالاستشراق من جهة ثانية، فإننا نتأكد من أن التفاعل الغربي مع العالم الإسلامي لم يكن بريئا البتة، بل كان لغرض “قتل” الآخر(معنويا) وشل حركاته، وقد كان المستشرقون هم الممهد الرئيس للطريق، والواضع لمعالمها الأولى، قصد تسهيل الدخول الصليبي إلى العالم الإسلامي، ابتداء بإحياء النزعات وتفريق الناس، على أساس قومي أو عرقي أو ديني، ما جعل العالم العالي والإسلامي، أطيافا وفرقا متناحرة…= “الضعف العام”.
وقد قاوم المسلون كل هذه الألوان من الاحتلال واتخذت المقاومة الإسلامية أشكالا متعددة، مسلحة وسياسية وفكرية وإعلامية…، وأذاقت هذه المقاومة مرارة الهزائم لدول “الاحتلال”، لكن مع وجود عوامل متعددة داخلية، استسلم العالم العربي- الإسلامي للاستعمار بطرق غير مباشرة، لا زال يؤدي ثمنها إلى اليوم.
وقد عمل الغرب (المحتل) على إرسال بعثات استشراقية، قصد الاستكشاف ومعرفة كل ما يتعلق بالعالم العرب- الإسلامي، سواء تعلف الأمر بالدين أو الاجتماع أو السياسية.
ومما يؤكد علاقة “الاحتلال” بالاستشراق، هو وجود تواصل قلبي بين الساسة الغربيين، والمستشرقين، ولما بدأت الحملات الاستعمارية تجاه العالم الإسلامي (ق19)، كان المستشرقون بمثابة المرشد، الذي اطلع ساسة الغرب عن طبيعة المجتمع العربي الإسلامي، ونقاط ضعفه وقوته، ولما “احتل” الغرب البلاد العربية الإسلامية، عمل المستشرقون على نشر كل ما يمكِّن للمستعمر ويقوي نفوذه، ويوهن من عزم المسلمين على مدافعته وجهاده([9]).
كما أن العديد من المستشرقين كانوا يشغلون وظائف مهمة في حكومات البلاد “المحتلة”، ومنهم:
- المستشرق الفرنسي مارسيل (1776-1854م)، الذي كان ضمن الحملة الفرنسية على مصر، وتولى إدارة مطبعة الحملة، وعمل كذلك مترجماً فيها([10]).
- المسشرق الفرنسي، لويس ماسينيون (1883-1962م)، الذي طاف العالم الإسلامي، تعلم اللغة العربية والفارسية والتركية وغيرها، عمل محاضراً في الجامعة المصرية القديمة وكان من طلابه طه حسين، كما تولى تحرير مجلة العالم الإسلامي، عمل مستشاراً في وزارة المستعمرات الفرنسية([11]).
- المستشرق الألماني، بيكر كارل (1867-1933م)، الذي عمل مستشاراً سياسياً لبلاده بعد قيام الحرب العالمية الأولى([12]).
- المستشرق الانجليزي الصهيوني، برناند لويس (ولد 1916م)، الذي درس الدراسات الشرقية بلندن، ثم درَّس بجامعاتها، عمل في الأوساط السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، أعد مخطط لتفتيت العالم الإسلامي وتقسيمه إلى دويلات صغيرة، وذلك لتمكين الاستعمار الصهيوني لفلسطين، وإضعاف القوى التي تهددها([13]).
إضافة لما سبق، فان بعض المستشرقين اعترفوا بهذه العلاقة، ومن بينهم، المستشرق الألماني ستيفان فيلد، حيث يقول:
“والأقبح من ذلك أنه توجد جماعة يسمون أنفسهم مستشرقين سخروا معلوماتهم عن الإسلام وتاريخه في سبيل مكافحة الإسلام والمسلمين. وهذا واقع مؤلم لا بد أن يعترف به المستشرقون المخلصون لرسالتهم بكل صراحة”([14]).
وفي نفس السياق يقول المستشرق الألماني، أوليريش هارمان:
“كانت الدراسات الألمانية حول العالم الإسلامي قبل عام 1919م أقل براءة وصفاء نّية، فقد كان كرلهينريش بيكر، وهو من كبار مستشرقينا، منغمساً في النشاطات السياسية، حتى إنه أصبح في 1930 م شديد الحماس لمخطط استخدام الإسلام في أفريقيا والهند كدرع سياسية في وجه البريطانيين”([15]).
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إذا تأملنا في الهمجية الغربية تجاه العالم العربي الإسلامي، وما فعله “المحتل”، تجاه الدين والعادة والأعراف وقتل الإنسان…، نرى بوضوح تام، كيف انبنى وتكون العداء للغرب، الأمر الذي يجعل الغرب هو المسئول الأول عما يجري اليوم من تصرفات(إرهابية) سواء بطرق مباشرة أو غير مباشرة، كما يجعله مسؤولا، عن تغذية، الصراع الحضاري، وتملصه من هذا الأمر، وإلصاقه بالإسلام والمسلمين، ما هو إلا مساهمة أخرى في مزيد من الصراع الحضاري المعاصر.
وعلى سبيل الختم:
إن مصطلح “الاستعمار” يحمل في طياته بعدا ايجابيا لا يمكن العدول عنه إلا بموجب، وما حصل بين الغرب والعالم العربي الإسلامي هو “الاحتلال”، الذي يحمل بعدا سلبيا يدل على الإزالة والاستبدال، وبهذا يكون الفعل الغربي فعلا صراعيا ببعد حضاري. الأمر الذي يجب على عقلاء العالم العربي- الإسلامي الوعي بهذا الأمر وعيا حقيقيا، وعيا استراتيجيا، وعيا مستقبليا، ومن ثم وضع معالم وأسس يسير عليه الفعل العربي الإسلامي بشكل عام، نحو بناء أرضيا مشتركة مستقبلية.
([1])المعجم المحيط، شحادة الخوري وآخرون، المراجعة والتنسيق: أديب اللجمي-نبيلة الرزاز، 244.
([2])أساس البلاغة، الزمخشري، تحقيق: محمد باسل عيون السود، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1419 هـ – 1998 م، ج 1، ص 678.
([4]) انظر”: شمس الدين القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ – 1964 م، ج9، ص 55 ، (بتصرف)
([5])محمد سيد طنطاوي، التفسير الوسيط للقرآن الكريم، الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الفجالة – القاهرة، الطبعة: الأولى، ج 7، ص 232.
[6]هيغل، العقل في التاريخ،.. محاضرات في فلسفة التاريخ، ، ترجمة امام عبد الفتاح امام ،ط: دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع –بيروت، ط: 3، 2007، ج 1 ، ص162-171.
([7])الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي، ج 8، ص88.
([8])عبد الرحمن حبنكة الميداني، أجنحة المكر الثلاثة وخوافيه: التبشير – الاستِشراق – الاستعمار، دراسة وتحليل وتوجيه، ص 51.
([9])محمد الشرقاوي، الاستشراق والغارة على الفكر الإسلامي، دار الهداية للطبع والنشر والتوزيع ــ القاهرة، بدون تاريخ،ص20،(بتصرف).
([10])عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، دار العلم للملايين ــ بيروت، ط 3، 1993، ص 528.
([11])عبد الرحمن بدوي نفسه، ص528
([12])عبد الرحمن بدوي نفسه، ص34-35
([13])أبو فهد الحماد، علاقة الاستشراق بالاستعمار، https://www.shatharat.net/vb/showthread
([14]) نقلا عن محمد الشرقاوي، الاستشراق دراسات تحليلية تقويمية،كلية دار العلوم ــ جامعة القاهرة، ص 67 .
محمد المرابط