كان خروجنا من القاهرة بتاريخ 20 فبراير، فقصدنا مدينة السويس بطريق السكة الحديدية، فوصلنا في نحو 3 ساعات، وأثمان السفر بالقطار على هذا الخط من 30 إلى 50 قرشا حسب الدرجات، والسويس مدينة صغيرة تظهر فيها العمارة ظهورا كبيرا عند حلول الحجاج بها والأنزال بها قليلة والأثمان مرتفعة. ومحل الإبحار بعيد عن المدينة بنحو ثلاثة كيلومتر ويربطه بالمدينة قطار حديدي يخرج من الجهتين عند كل ربع ساعة بثمن زهيد ويسمى : بور توفيق وهو من أجمل ما يكون، إذ فيه بنايات لطيفة تخص إدارة القنال وسكنى موظفيها واقعة كلها على شبه جزيرة ترى فيها مياه المرسى من جهة ومياه القنال من جهة أخرى، وتزيدها الأشجار وخطوط الشوارع المعبدة النظيفة جمالا وبهاء، مما يجعلها من أحسن محلات التفسح والانبساط. وفي الغد الذي هو يوم 21 فبراير على الساعة 5 بعد الزوال، كان موعد الإبحار، فتوجهنا في سيارات خاصة للمحل المذكور حيث توجد مراقبة جوازات السفر ومكتب الصحة البحري وغيره، ولولا أن القنصلية الفرنسية بالسويس كلفت من يأخذ بيدنا في تذليل عقبات المرسى بوصاية من جناب المسيو كايار، لوجدنا صعوبة كبيرة قد وجدها البعض من أصحاب الدرجة الثالثة، كالاستحمام بالكبريت وغير ذلك من الوقوف هنا والانتظار هناك.
وفي الوقت المعين أبحرنا من اليابسة مباشرة على ظهر الباخرة «الطائف» للشركة الخديوية، وهي باخرة صغيرة لا تزيد حمولتها على 4000 طن (أنظر الفرق بينها وبين سطراطهنافر التي أقلتنا من طنجة وحمولتها 22500 طن). وقد سبق لنا أن أخذنا ورقة السفر بها في مكتب النيابة بالقاهرة على حساب 640 فرنكا في الدرجة الثانية من السويس إلى الينبع. بدون أكل، وكان اختيارنا عليها أولا لمرورها على الينبع الذي هو أقرب للمدينة بالنسبة لجدة، وثانيا للخروج من الخلاف في الإحرام بميقات رابغ، الذي يحاديه الذاهب إلى جدة إذا كان في العزم تسبيق الزيارة.
فخرجت بنا قرب غروب الشمس بعد أن حملت على ظهرها 240 من الحجاج من مختلف الأقطار وجدنا من بينهم الفاضل السيد الحاج العربي الغربي ونجليه البارين زيادة على بعض الأفاضل الذين خرجوا معنا من طنجة، ومن أعيان الجزائر الذين تعرفنا بهم الباش أغا الأطرش من النواب الماليين بالجزائر وبعض رفقائه، فقطعت بنا المسافة بين السويس والينبع في ظرف ثلاث ليال وكان البحر في اليوم الأول والثاني على أحسن ما يرام، إذ كانت مياه البحر الأحمر لحد هناك منحصرة في مضيق يتراآى من جانبيه البر بجباله ورماله كأنه مضيق جبل طارق تقريبا، ثم بعد ذلك اتسعت دائرته وتوارت اليابسة بالحجاب، فما كان من منتصف الليلة الأخيرة حتى هاج البحر بصورة مهولة إلى أن صارت المياه تدخل على ركاب العنابر وتصل إلى مجازات بيوت الدرجة الثانية وكثير منا يئس من الحياة لما صارت الباخرة على صغر هيكلها تغوص بين جبال الأمواج وتتمايل مع هبوب الرياح العواصف وخصوصا لما علموا أن ربانها جمع حوله النوتية ليكونوا على بال مما يحدث عن هذه الأحوال، بعد أن سبق لهم أن قاموا في وسط النهار بتجريب عمليات الإنقاذ أمام الحجاج، وقيل عند ذلك أن ربان الباخرة لما خاف مما عسى أن يكون من الصخور قرب السواحل عمد إلى التوغل في وسط البحر فصادف فيه ذلك الهيجان، وقد دام الحال هكذا عدة ساعات كانت علينا كالأيام الطوال، ثم صار البحر بعدها يرجع إلى رشده شيئا فشيئا إلى أن وصلنا بالسلامة ولله الحمد لمرسى الينبع بعد أن وقفنا في اليوم الأول بمرسى صغيرة تسمى الوجه، وفي اليوم الثاني بمرسى الطور لتنزيل البريد وبعض البضائع. وفي كل من هذه المراسي الحجازية، التي هي أشبه شيء بكتلة من أبنية البوادي عندنا على أجراف بالسواحل، كان يطلع للباخرة بعض ولاة الأمن الحجازيين في قوارب تشبه القوارب الريفية القديمة وعليها الراية السعودية الخضراء المكتوب عليها (لا إله إلا الله محمد رسول الله). هذا وقد كان في العزم أن نسافر من السويس مع باخرة لطيفة أعدتها شركة البنك المصري لحجاج مصر وجهزتها أحسن جهاز من جميع وجوه الراحة فلم يُمْكنّا، كما أنه لم يمكن لغيرنا ما عدى المصريين الحصول على الترخيص في السفر معها رغما عن الجهود والمساعي بدعوى أنها خاصة بالمصريين ولا يرخص فيه للأجانب (المقصود بهم غير المصريين)، والظاهر أنه حيث كان هناك امتياز للشركتين الخديوية والإيطالية في نقل الحجاج إبان الحج وأُنشِئت في الأخير هذه الشركة المصرية وكان في إنشائها مزاحمة لهما وقع الاتفاق على إرضائهما بعدم قبول كل أجنبي عن المصريين في بواخرها فالتجأنا إلى أول باخرة يكون مرورها على الينبع في طريقها إلى جدة، فكانت هي الباخرة «الطائف» المذكورة، نعم هناك بواخر أخرى أحسن منها في الجملة تابعة للشركة الإيطالية وحمولتها 9000 طن إلا أنها تذهب رأسها إلى جدة وأثمان السفر فيها: في الدرجة الأولى 1190 قرشا يشملها حق الدخول إلى جدة (170 قرشا) وفي الثانية 930 قرشا وفي الثالثة 350 قرشا بالأكل في جميع الدرجات، ولقد رأى معنا كثير من الركاب صوابية النزول في الينبع اقتصادا في طريقي البحر والبر بالنسبة للذهاب إلى المدينة، واقتصادا في الثمن أيضا وخروجا من الخلاف في مسألة الإحرام برابغ وفرارا من الوقوع في هيجان آخر في البحر في بقية الطريق، على أنه بلغنا بالفعل ممن لم يمكنهم النزول معنا في الينبع وواصلوا السير إلى جدة لِمَا معهم من الأثقال، أن الباخرة زاغت بهم عن الطريق قرب ميناء جدة لكثرة الضباط ولكن الله سَلّمَ. كما علمنا ممن قدموا بعدنا في بواخر أخرى أنهم لاقَوْا بحرا هاديا والبحر كما لا يخفى لا يستقر على حال سواء في البحر الأحمر أو في غيره./
(يتبع)
محمد وطاش