قرب تلك الباب الكبيرة لذلك البناء العمومي الذي كان متميزا عن بناءات البلدة، والذي كان، حسبما يحكى، تابعا لمصلحة الأشغال العمومية، تحطنا في أغلب الأحيان الحافلة، وعادة هناك ننتظر كذلك حافلة العودة.
في تلك الأيام أخذت تسري، كالوباء، بين بسطاء البلدة الذين تعودوا على أنشطة فلاحية معاشية وحياة لا ترف فيه، أخبار عن غنى بعض من احترفوا التجارة في مخدر الحشيش.
قرب تلك الباب نرى سيارات فارهة تمر بسرعة البرق، فتسمع حكايات عن أصحابها تدنو من الخيال،وأن سر الرفاه أو اللعب بالمال الذي ينعم في بحبوحته هؤلاء المعروفين بألقابهم غالبا، كما يروى بالتواتر، هو ارتباطهم بشبكات أجنبية، إيطالية، في المقام الأول، ثم ألمانية و إنجليزية…و اكتسابهم لقدر هائل من العملة الأجنبية كعائدات للتجارة التي احترفوها والتي كان يطلق عليها مصطلحا مستحدثا جاذبا يسمى ًالبزنيسً.
وأنت صاعد في جنبات البلدة أو نازل وسطها، تأخذك كالسحر الحياة البسيطة، والنظرات الخجولة، وكد الحقول والشواشي، وًالله يعاونً وإيعاونا ويعاونكً، وخوابي الطين في العيون، و قطعان الماعز، و خوار البقر، و حضانة الدجاجات لصيصانها، وصدى صياح الديكة…ورجع الصدى، وخيرات الأشجار والحقول والبيادر والكروم والسلال، وصوت ينادي من بعيد…لا شيء كان ينبئ بتحول وشيك، وقد كان بريق المدينة والخارج مهيمنا من قبل ولم يزل ساريا في تلك الأثناء، لا يعلو عليه بريق آخر.
ويا للعجب، على خلاف ما يبدو ويعتقد، فرياح أزيز السيارات الفارهة لم تبرح الآذان، ورائحة العملة الصعبة لم يهجر رنينها مسام الأصابع؛ وكنتاج خفي و ظاهر لذلك، انتقل خلال عقدين أو أكثر أو أقل سحر الذهب الأخضر من كتامة…ف…ثم…إلى… فلعلعت ًالكتاميةً بين الجبال والسهول والتلال والسواقي والوديان حتى خلبت الألباب والنفوس. تغير كل شيء بعد ذلك، دبت السيارات في جنبات البلدات وفي وسطها، و ازدحمت الأسواق، وتضاعف الاستهلاك، وعلا البنيان، ونضب الماء وكثرت الصهاريج الاصطناعية، واكفهرت الغابة وصرخت البيئة، وانتشرت المقاهي، و تعددت محطات البنزين، واتسعت متاجر ًلانغريً وًالبلاستيكً… لقد ساد اقتصاد الذهب الأخضر كنمط انتاج وحياة، وطارد بريق ًالبزنيسً ما تبقى من الفلاحة المعاشية في عقر الدار؛ فكل شيء يقاس بصابة العام من القنب الهندي، حتى ًالسياسةً والانتخابات و النخب تحكمت فيها الدورة الاقتصادية للذهب الأخضر، بل إن من سولت نفسه حتى أن ينوي أو يفكر أو يتحدث ولو تلميحا عن بدائل للأخضر، تدور به الدوائر من كل جانب ويحسب، قبل أن يبدأ، في عداد الخاسرين.
والآن وقد زفت ساعة الحقيقة، ولاشك ستتغير عما قريب الأحوال والمعادلات؛ لكن من تعود على اللعبة القديمة لن يحط سلاحه بسهولة، بل سيظل، هدرا للزمن، يقاوم أو يناور مادامت الضبابية قائمة و مادام القلق يزيد مع مستجدات المرحلة، فمشروع تقنين زراعة القنب من أجل الاستعمالات المشروعة إن تم تنزيله سيقلب تربة باديتنا وبلداتنا رأسا على عقب، وفي هذا الظرف الشائك والعصيب لن ينفع إلا خطاب الصراحة والوضوح، خطاب يهيء الناس، بجد وهدوء، للتكيف و التعامل بعقلانية، والتكتل والتضامن لاستثمار فرص الخروج من نمط إنتاج وحياة رغم مكاسبه يبقى نمطا لم يساعد على تنمية حقيقية لمنطقة جبالة و إن ساعد على غنى جيوب لا تعد و لاتعصى، فجل بل كل قرانا ومداشرنا، غارقة في الوحل.
خطاب المرحلة الحالية والمقبلة، إن لم يركز على تعبئة الناس للمشاركة في بناء نموذج تنموي جديد يقطع مع حياة الذل والخوف والقلق لمعانقة حياة الكرامة والطمأنينة والسكينة خطاب بئيس، مموه، رسالته التعتيم، فمرحبا، ضد جحافل التيئيس، بأي نموذج تنموي معقول وذي مصداقية لكي يعيد للمنطقة روحها الطبيعية، ويزرع في أبنائها من جديد حب العلم والعمل، والوعي للتحكم، ما أمكن، في المصير.
ليس من السهل استبدال العادات و تغيير السلوكيات والتخلي عن بعض الرفاه، هذا شيء بديهي، كما أن عائدات النشاط و الانتاج الفلاحي ليست مضمونة في رمشة عين، بل إن العمل الفلاحي عمل صعب ومرهق و إدارة المشاريع الفلاحية تحتاج إلى أراضي صالحة، ومعرفة وخبرة، ومال وآليات…وصبر؛ لذلك فالفلاحون الصغار والمتوسطون محتاجون للدعم والاستشارة والمواكبة أكثر من غيرهم كما في كل بلدان العالم إذ أن مهنتهم، رغم أهميتها وقيمتها وصعوبتها، تهددها عدة عوامل على رأسها منافسة الشركات والاستغلاليات الفلاحية الكبرى، وضعف عائدات الأنشطة الفلاحية، لكن تبقى اختيارات واعدة مفتوحة أمام المنطقة كالفلاحة المجالية والبيولوجية، و أنشطة اقتصادية أخرى مرتبطة بخصوصيات المنطقة الطبيعية وثرائها البيئي..
هذا و في ظل الوضعية العقارية الراهنة و صعوبات التضاريس و ندرة المياه، أحيانا، والعزلة، وكذا مستوى الوعي والإرادة بعد سنوات من التيه و هيمنة ًالاقتصاد الأخضرً ، من الصعب تصور تحول سريع أو ثورة إنتاجية أو اقتصادية، بل من الحكمة تنويع فرص التكوين و التعليم والشغل وبالتالي الارتقاء الاجتماعي أمام أبناء المنطقة، حيث إن البادية بإمكانياتها الحالية وربما المستقبلية، وإن توفرت الإرادة السياسية مع الإرادة الذاتية للناس، لا يمكنها أن تستوعب المطالب الاجتماعية الهائلة وأن توفر مصادر الدخل ومستوى العيش الكريم لجميع أبنائها. وذلك رهان سنرى هل سنستطيع رفعه، وتحد هل سنتمكن من ربحه؟ !.
تحت ظلال تلك الباب الكبيرة رأى خيطا من السيارات تمر كالبرق، وبنايات تشبه المدينة ولا تشبهها، وأحاديث تسري عن متابعات وأحكام، و عنف وعراك، وتفكك أسر، وضياع أجيال وانتحارات متتالية، و غربة علم واندحار قيم، وبريق أنواع دخيلة من النبتة الخضراء والمخدر، وأفق مظلم ودوران في حلقة جهنمية مفرغة…أخذ مكانه في الحافلة، متأملا عبر زجاج النافذة، كان يفكر في ضرورة مرحلة انتقالية، و يحس عميقا كم هي صعبة الهجرة وكم هي صعبة العودة .!!!
عبدالحي مفتاح