من بين أهم المؤلفات المنشورة حول عرض وقائع السيرة النبوية بشكل مميز عن نظيراتها التي تؤرخ لأحداث السيرة فقط، مؤلف فقه السيرة النبوية لمحمد سعيد رمضان البوطي. وقد جمع في هذا الكتاب بين عرض أحداث السيرة النبوية وبين استخلاص العبر واستنباط الأحكام الفقهية منها، مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة، ومن ثم كان تميزه عن سابقيه، بحيث لقي قبولا كبيرا لدى الدارسين والباحثين.
وطريقة البوطي في دراسته لأحداث السيرة النبوية كما بيَّنها في مقدمة الكتاب تقوم على منطلقين اثنين،
الأول: أهمية السيرة النبوية في فهم الإسلام.
والثاني: حول كيفية تطور دراسات السيرة النبوية.
وسنقف في هذه الحلقة على هذين المنطلقين، مؤجلين الحديث عن منهج المؤلف إلى الحلقة الموالية – بحسب ما يسمح به المقام-، باعتبار أنه تناول في مقدمة الكتاب عرضا حول أهمية السيرة في فهم الإسلام وكيف تطورت دراستها عند المؤلفين، ثم ذكر المنهج العلمي في دراستها..
وقد قسَّم المؤلف كتابه إلى: مقدمات- من الميلاد إلى البعثة- من البعثة إلى الهجرة (مراحل الدعوة الإسلامية)- أسس المجتمع الجديد- مرحلة الحرب الدفاعية- الفتح: مقدماته ونتائجه- خاتمة في بعض صفاته صلى الله عليه وسلم..- خلاصة عن تاريخ الخلافة الراشدة. فهذه جملة محتويات الكتاب، تنبي عن طريقته ومنهجه في تدوين أحداثها.
وبخصوص المنطلق الأول عن أهمية السيرة النبوية، يعتقد المؤلف أن الغرض من دراسة السيرة النبوية وفقهها ليس لمجرد الوقوف على الوقائع التاريخية، ولا لسرد ما طرف أو جمل من القصص والأحداث فقط. ولذا لا ينبغي أن نعتبرها من جملة الدراسات التاريخية، وإنما الغرض منها أن يتصور المسلم الحقيقة الإسلامية في مجموعها متجسدة في حياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن فهمها مبادئ وقواعد وأحكاما مجردة في الذهن باعتبارها عملا تطبيقيا يراد منه تجسيد الحقيقة الإسلامية كاملة في مثلها الأعلى محمد صلى الله عليه وسلم وهذا يتجلى من خلال اعتبارات ذكرها المؤلف كما يلي:
– فهم شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم النبوية من حياته وظروفه التي عاش فيها.
– اعتبار الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للمسلم، لأن الله تعالى جعله قدوة للناس (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
– اعتبار سيرته صلى الله عليه وسلم عونا على فهم كتاب الله، لأن كثيرا من آيات القرآن تجليها أعمال الرسول عليه السلام.
– استخلاص المسلم من دراستها معارف إسلامية صحيحة، سواء في العقيدة أو الأحكام أو الأخلاق لأن أعماله صلى الله عليه وسلم صور مجسدة نيرة لمجموع مبادئ الإسلام وأحكامه وأخلاقياته.
– اعتبار الرسول صلى الله عليه وسلم نموذجا لدى المعلم والداعية في كل أحواله ومراحل دعوته وطريقته في ذلك كله..
ولهذه الاعتبارات كانت السيرة النبوية وافية بتحقيق هذه الأهداف وشاملة لكل النواحي الإنسانية والاجتماعية من حيث أن حياته صلى الله عليه وسلم تقدِّم لنا نماذج سامية للشاب المسلم المستقيم في سلوكه الأمين مع قومه وأصحابه، وللداعي إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة في سبيل تبليغ رسالته، وللزوج المثالي في حسن المعاملة، وللقائد الحربي الماهر، وللسياسي الذي يسوس الأمور بحذق وحكمة بالغة..
فالسيرة إذن ليست إلا إبرازا لهذه الجوانب الإنسانية كلها، مجسدة في أرفع نموذج وفي أتم صورة.
أما المنطلق الثاني حول كيفية تطور دراسة أحداث السيرة النبوية، فقد تطرَّق فيه المؤلف إلى القول بأن المسلمين اعتبروا أن السيرة النبوية هي المحور الذي تدور حوله حركة التدوين لتاريخ الإسلام، ولذلك وجدوا أنفسهم أمام ضرورة دينية تحملهم على تدوينها تدوينا صحيحا على نحو لا يشوبها وهم، ولا يتسلل إليها خلط أو افتراء، ولهذا تحمَّلوا أقصى الجهد في سبيل الوصول إلى منهج علمي تحصن فيه حقائق السيرة النبوية معتمدين قواعد مصطلح الحديث وعلم الجرح والتعديل لضبط الروايات والأخبار، حفظا لمصادر الإسلام من أن يصيبها أي دخيل، وما انتهوا إليه من أخبار ووقائع دوَّنوها معتبرين إياها حقيقة مقدسة من دون أن يقحموا تصوراتهم الفكرية وانطباعاتهم النفسية حولها، كمثل ما اعتمدته بعض المدارس الفكرية في عصرنا اليوم؛ محاولة خداع المسلمين من خلال فهم حياة الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه عبقري عظيم أو قائد خطير أو داهية محنك، إغفالا لنبوته عليه السلام.. وقد انبرى البوطي في أثناء هذه الدراسة دحض أفكار ومعتقدات هذه المدارس، وتقويض منهجها..
ومن خلال هذين المنطلقين سيقوم المؤلف بعرض أحداث السيرة النبوية باعتبارها تجسيدا للأحكام الإسلامية على أرض الواقع وهو موضوع الحلقة القادمة..
(يتبع)
منتصر الخطيب