وقفنا سابقا على ما اختص به هذا الكتاب “فقه السيرة النبوية” من الجمع بين عرض أحداث السيرة النبوية وبين استخلاص العبر واستنباط الأحكام الفقهية منها، مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة، وسنستكمل في هذه المتابعة الثانية تتبع منهجه الذي عرضه من خلال منطلقين اثنين – كذلك- حول السيرة النبوية الكريمة باعتبارها تجسيدا للأحكام الإسلامية على أرض الواقع.
– وأول ذلك أنه يعتمد على استنباط القواعد والأحكام من خلال عرضه لأحداث السيرة مبتعدا في نفس الآن عن المنهج الأدبي التحليلي المجرد أو المنهج الوصفي.. فلم يقتصر على سرد أحداث السيرة مجرَّدة بل يستنبط منها أحكاما فقهية، ومن ذلك:
استنباطه من بيعة الرضوان جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أمر مندوب إليه ومشروع، وساق في ذلك مرويات ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين تبرك الصحابة رضوان الله عليهم بشعر النبي عليه السلام وعرقه ووضوئه والقدح الذي كان يشرب فيه.. ومنه تبرك أبي أيوب الأنصاري في منزله بآثار أصابعه عليه السلام في قصعة الطعام.. وكان هذا الأمر مما أقره النبي عليه السلام.
إلى غير ذلك من الأمثلة التي استنبطها المؤلف، والتي تتضمن أحكاما فقهية، والتي خصص لها فهرسا خاصا، نجد فيه: حكم الصلاة داخل الكعبة، وحكم تشييد المساجد ونقشها، وحكم المُحصَر في الحج، وحكم حجاب المرأة المسلمة، ومشروعية الهجر بسبب ديني، وبعض أحكام المعاهدات إلى غير ذلك..
– ثانيا: محاولة المؤلف إبطال مزاعم المؤلِّفين الذين حاولوا دراسة السيرة النبوية من خلال عرض حياة النبي صلى الله عليه وسلم دون التعرض لمعجزاته ودلائل النبوة عنده، قصدهم في ذلك عرض شخصيته الإنسانية فقط، وفهم السيرة النبوية بميزان العلم، وعدم التسليم للغيبيات والخوارق والمعجزات وإن جاء بها الخبر الصادق المتواتر، فاستبدلوا بذلك ميزان الرواية والسند بطريقة الاستنتاج الشخصي فراحوا – بسبب منطلقهم هذا- يروِّجون للنبي صلى الله عليه وسلم صفة العبقرية والعظمة والبطولة، شغلا للقارئ عن ذكر مميزات النبوة من الوحي والرسالة..
وفي نفس المنطلق قصد المؤلف إلى دحض آراء المستشرقين الذين يريدون التشكيك في صدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتظهر هذه الردود بين ثنايا الكتاب حين يعرض لذكر حادثة في السيرة يشكك فيها هؤلاء، وطريقته في ذلك أن يطرح أسئلة بهذا الشأن ويعرض لآراء المستشرقين حولها داحضا آراءهم ومفندا تشكيكهم.. ومن أمثلة ذلك الحديث عن بدء نزول الوحي وزواجه عليه السلام ومعجزة الإسراء والمعراج..
فبشأن نزول الوحي؛ ذكر المؤلف أن المستشرقين بذلوا جهدا كبيرا من أجل التلبيس في حقيقة الوحي والخلط بينه وبين الإلهام وحديث النفس بل وحتى الصرع أحيانا، محاولين تأويل ما روته كتب السنة حول حقيقة هذه الظاهرة، معتقدين بأن محمدا (ص) لم يزل يفكر حتى تكوَّنت في نفسه بطريقة الكشف التدريجي المستمر عقيدة كان يراها كفيلة بالقضاء على الوثنية، وأنه تعلم القرآن من بحيرا الراهب.
وطريقة المؤلف في هذا الأمر أن يورد أسئلة بديهية ليُقنع القارئ بزيف ما يزعم هؤلاء؛ من قبيل: لماذا رأى الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل بعينه لأول مرة ولم يكن ذلك من وراء حجاب.؟ ثم لماذا خشي عليه السلام على نفسه من أن يكون هذا الذي تمثَّل له في الغار أَتِيّاً من الجن؟ ثم لماذا انفصل عنه الوحي مدة طويلة حتى جزع عليه السلام من ذلك جزعا عظيما؟
ثم يبدأ بالإجابة على ذلك، ومن أمثلته في الإجابة عن السؤال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم فوجئ وهو في غار حراء بجبريل أمامه يراه بعينه وهو يقول له: اقرأ.. حتى يتبيَّن بأن ظاهرة الوحي ليست أمرا ذاتيا داخليا مردُّه إلى حديث النفس المجرَّد، وإنما هو استقبال وتلقّ لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس، وما ضمُّ الملَك له عليه السلام لثلاث مرات إلا تأكيداً لهذا التلقي الخارجي، ولا شك أن هذا ليس شأن من يندرج في التأمل والتفكير حتى تتكون لديه عقيدة يؤمن بالدعوة إليها.
وبالإضافة إلى هذين المنطلقين اللذين اعتمدهما المؤلف في منهجه لدراسة السيرة النبوية، نجده – وتدعيما لذلك- يعمد أحيانا إلى:
– وضع بعض الأسئلة لاستخلاص بعض الفوائد من تدوين أحداث السيرة النبوية، ومن أمثلة ذلك، السؤال التالي: لماذا سُميت السَّنة التي مات فيها عمُّ النبي صلى الله عليه وسلم وزوجتُه – أم المؤمنين خديجة- رضي الله عنها، بعام الحزن. وربما استساغ الناس من وراء ذلك إقامة علائم الحزن والحداد على موتاهم مدة طويلة. والواقع أن هذا اعتقاد خاطئ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحزَن على فراق عمه وزوجته ذلك الحزن الشديد استوحاشا لفقدهم، وإنما لِما أعقب وفاتَهما من انغلاق معظم أبواب الدعوة في وجهه، وخاصة ما لقيه عليه السلام بالطائف، وقد كانت حماية عمه له تتركُ مجالا كثيرا للدعوة وكان وقوف زوجه خديجة إلى جانبه تخفيفاً عنه ومؤازرةً له.
– وأحيانا أخرى يقف على فقه السيرة النبوية واستنباط العبر والعظات منها واستخراج نصائح للدعاة إلى الله تعالى انطلاقا من فعل الرسول عليه السلام وذلك باستعمال المرونة في كيفية الدعوة من حيث التكتم أو الجهر مراعاة لمصلحة المسلمين، وأحيانا يحذِّر المسلمين من الوقوع في بعض ما يلفق من مرويات حول السيرة النبوية؛ كتحذيره من الاعتماد على ما يُسمى بمعراج ابن عباس حول قصة الإسراء والمعراج لأنه كتاب يجمع أحاديث باطلة لا أصل لها ولا سند….
وهكذا تتبين لنا طريقة تعامل البوطي مع نصوص السيرة النبوية ومدى الجهد الذي بذله المؤلِّف من أجل أن يضم كتابه هذا “فقه السيرة النبوية” دروسا ومواقف تكون منظارا للمسلمين في سبيل رصد واضح الرؤية لهذه الأحداث، ودليلا على معجزة هذا النبي الكريم عليه السلام، هذا مع الإشارة هنا إلى أن الكاتب حاول – ما أمكن- الاعتماد في رواية أحداث السيرة النبوية على النصوص الصحيحة؛ ولهذا نجده لا يورد إلا ما اتفق عليه الرواة أو ما اشتهر من المرويات، وتلك مزية أخرى تضاف إلى هذا العمل.
وأخيرا أقول: لا شك أن قراءة الكتاب تختلف من قارئ لآخر، وحسبي أن يكون ما ذكرت كفيلا بتشويق غيري لقراءة هذا الكتاب وإغذاذ السير في البحث عن معالم وأهداف أخرى تكون قد خفيت عن هذا التقديم لمضمونه.. والحمد لله رب العالمين.
منتصر الخطيب