من القراءات التي أتيحت لي في المتن الروائي العربي الذي صدر أغلبه في العقدين الأولين من الألفية الثالثة، مجموعة من الأعمال الروائية تنتمي إلى عدة أقطار عربية هي: المغرب ـ مصر ـ سوريا ـ الأردن. وتتميز بالتنوع في طرائق الاشتغال، وفي الثيمات التي تعالجها، والانتماء إلى اتجاهات روائية متعددة، يمكن أن نصنفها بشكل عام كما يلي:
الرواية الاجتماعية، وتمثلها الروايات التالية :” ثقوب في جدار الزمن” لعواطف أحمد الباتنوني ـ «من فرط الغرام» لناصر عراق ـ «سروال بلقيس» و«الأرملة السوداء» لصبحي فحماوي ـ «ليل ونهار» لسلوى بكر. كائنات محتملة لمحمد عظ الدين التازي.
ـ الواقعية الجديدة، وتمثلها أربع روايات هي: «المصري» لمحمد أنقار ـ «بعيداً عن الضوضاء قريباً من السكات» لمحمد برادة ـ «واحة الغروب» لبهاء طاهر ـ «لودميلا» للينا كيلاني.
ـ رواية الخيال العلمي، وتدخل في إطارها روايتان هي: ـ «الاختيار» للكاتبة السورية لينا كيلاني ـ «الإسكندرية 2050» لصبحي فحماوي.
ـ الرواية الغرائبية القائمة على الفانتازيا: روايتا «البشموري» و«سواقي الوقت» لسلوى بكر.
ـ الرواية الجديدة، وتنضوي تحتها ثلاث روايات هي «دنيازاد» لمي التلمساني ـ «كتاب الأسرار» لسلوى النعيمي ـ «الخوف» لرشيد الجلولي. ولا يخفى على المتتبع للمشهد الروائي العربي أنه عرف تراكماً ملحوظاً سواء في المغرب أو المشرق، يصعب على القارئ المواكب المهتم أن يسايره ويتابعه بالقراءة بله الدرس والتحليل.
ويلاحظ أن القاسم المشترك بين هذه الأعمال الروائية، هو انشغالها بهموم ومشكلات الواقع الراهن، سواء على المستوى العربي، أو على المستوى الإنساني العام. يقول بهاء طاهر في هذا الصدد ” أنا أكتب عندما يلح عليّ سؤال، قد يكون تاريخياً أو معاصراً، لكن في كل الأحوال، لا أكتب من برج عاجي، بل مهموماً بالواقع ومنشغلاً بالأسئلة التي يطرحها ” (كتابة ضد اليأس ودعوة إلى التمرد)، ومن الثيمات التي تزخر بها هذه الأعمال الروائية، نذكر على سبيل المثال لا الحصر ما يلي: ـ المبدع الحقيقي بطل إشكالي في مجتمع متخلف (رواية المصري) ـ أزمة الإنسان العربي في واقع مترد ماتت فيه المعاني والرمـوز والمثل :( واحة الغروب). معانقة هموم المجتمع وآلامه ومعاناته زمن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مصر في عهد الانفتاح (ليل ونهار) ـ «سواقي الوقت». تصوير أحداث تتسم بالغرابة والإثارة تقع في القرون الوسطى في مصر من خلال رحلة قسيسين قاما بها تنفيذاً لأمر أسقف كنيستهما إلى موطن (البشموريين) المسيحيين الذين أعلنوا العصيان على الولاة المسلمين، وامتنعوا عن أداء ما عليهم من ضرائب وجزيات، لحثهم على أداء ما فُرِضَ عليهم مخافةَ أن يتعرضوا لبطش الوالي، رواية «البشموري». ولا يخفى أن الرواية تشير إلى الصراع الديني التاريخي بين أبناء بلدها/ استغلال القوى العالمية، وعلى رأسها أمريكا، الشعوب المقهورة، واتخاذ أراضيها فضاء لتجاربها العلمية الخطيرة ـ التطور المخيف للعلم الذي يستخدم لتدمير الإنسان والحياة، «بذور الشيطان» ـ «الاختيار» ـ «لودميلا» ـ «الإسكندرية 2050». الموقف المسيء إلى الإسلام باعتباره دين تعصب وتطرف في نظر الآخر الغربي «بذور الشيطان». رصد تطور التاريخ المغربي الحديث في عهدي الاستعمار والاستقلال حتى بروز حركة 20 فبراير، من خلال ثلاثة أجيال مأزومة، (رواية “بعيداً عن الضوضاء.. قريباً من السكات “..(
الهجرة بحثاً عن الحرية والعيش الكريم فراراً من آليات القمع وغياب حقوق الإنسان في الوطن الأصلي «من فرط الغرام». قضية المرأة العربية، ومعركتها من أجل أخذ مكانتها في المجتمع «الأرملة السوداء»، وبوحها وكشفها الجريء عن مكنوناتها، ونقدها اللاذع التقاليدَ السلبية في مجتمع مازالت تسوده قيم السلطة الأبيسية «دنيازاد» لمي التلمساني ـ «كتاب الأسرار» لسلوى النعيمي. الحرب وهي ثيمة كثيراً ما نتناساها وهي للأسف موضوع ملتصق بجزء كبير من حياة الوطن العربي، كما قال بحق الناقد محمد برادة في كتابه «أسئلة الرواية/ «أسئلة النقد»: رواية «الخوف» لرشيد الجلولي ـ معاناة الإنسان الفلسطيني في المخيمات نساء ورجالا، وتشبثه بالمقاومة والتحدي : «سروال بلقيس» لصبحي فحماوي.
ويبدو أن أوجاع الإنسان العربي وآلامه ومشاكله ـ ذاتية وموضوعية، محلية وعالمية ـ كانت تجثم بقسوة على الذوات المبدعة بشكل جعلها تبثها في ثنايا هذا الجنس الأدبي، الذي يتميز بانفتاحه، وسعة حيزه، وقدرته على احتضان الثيمات المتعددة، والأنواع المختلفة، ذلك أن الكاتب المبدع ـ كما يرى محمد برادة «لا يستطيع أن يغير الواقع أو يقوِّم ما يعتقده خللاً، إلا أنه يستطيع أن يجعلَ من المتخيل عنصرَ انتقاد لما هو قائم، أي لكل ما يسيء ويحقر ويهدم القيم التي تعطي معنى للحياة. انظر: (كتاب : فضاءات روائية ).
وتجدر الإشارة إلى أن المتن الروائي الذي تم التنويه إليه أعلاه، حقق لي أثناء قراءته ما يروم المرء تحقيقه من قراءة الإبداع: المتعة والمعرفة. وهذا الحرص على تقديم المتعة والمعرفة للمتلقي، هو ما كنا نجده في كتابات توفيق الحكيم ويحيى حقي ونجيب محفوظ وكتابات جيله، ثم في المنجز الروائي لجيل الستينيات وفي بعض النماذج الروائية التي ظهرت في السبعينيات في المشرق والمغرب العربي، قبل أن تغيب الحكاية (الحدوتة) باعتبارها مكوناً أساسياً في العمل الروائي في غمرة الاتجاه إلى التجريب. ويرجع أحمد اليبوري التقبل الإيجابي لبعض النصوص الروائية المغربية إلى كونها تحقق للمتلقي المتعة والمعرفة في آن، فضلا عن أنها، تقدم المعنى للمتلقي عن طريق تقنيات السرد والوصف بجلاء وشفافية. انظر « الكتابة الروائية في المغرب / البنية والدلالة ـ المدخل»، أما الاتجاه الذي نزع إلى التجريب والانفلات من قواعد الفن الروائي، وإهمال مقوم الحكاية، والبحث عن الصنعة القائمة على الغموض، فقد أدى إلى تضييق دائرة متلقي النص الروائي، وحصره في نخبة من القراء. (أحمد اليبوري، مرجع مذكور). وهكذا برزت ظاهرة قراءة الكتاب إنتاج بعضهم بعضاً. وقد ألمح الناقد محمد برادة في إطار حديثه عن الرواية العربية الجديدة ـ رغم إيمانه بتطورها ـ إلى ظاهرة عزوف الجمهور عن قراءة الرواية بقوله «إن الكتابة الروائية العربية في طريقها إلى التطور، بيد أن هذا التطور لا يستند إلى جمهور قارئ، مقارنة بالروايات التي ظهرت في سنوات الخمسين والستين والسبعين من القرن الماضي، بما يجعل هامش رواجها يضيق، وحجم تجديدها يتضاءل، وهذا الأمر يعتبر من آفة الكتابة المنفلتة في كثير من الأحيان من قواعد الفن الروائي» راجع : (كتاب الرواية العربية ورهان التجديد). وهذا ما يؤكده شكري عزيز الماضي الذي رصد عمَلَهُ القيم لدراسة الرواية العربية الجديدة بقوله «إن الرواية العربية الجديدة تواجه صعوبات ومخاطر وتحديات عديدة: أهمها إغواء الرفض المطلق الذي يؤدي إلى القفز عن الواقع الأدبي لا إلى التخطي المنشود، وإغراء التجديدات التقنية والشكلية المطلوبة لذاتها، التي تؤدي إلى التضحية بالقارئ العادي ـ الذي أُهمِلَ في الآونة الأخيرة ـ والاستناد، أكثر مما ينبغي، إلى الذرائع الفنية الفلسفية التي تؤدي إلى حصر الاهتمام بالنخبة المثقفة» انظر: (كتاب أنماط الرواية العربية الجديدة).
بقلم : عبدالجبار العلمي