قراءة في المجموعة الشعرية :الشرفة 48
للشاعر الإعلامي شكري البكري
كم من طريق سَيَلْزَمنا شاعرنا حتى نغوص في مدى شرفتِك ؟
كم يلزمنا من دُرج حتى نصل الطابق الرابع، والغرفة الثامنة والأربعون ..
أسنصعد إليك !! ولا مصعد في العمارة ص 35
أم ستنزل إلينا!! أم سنلتقي بين سطور القصيد.!!.
لن نتعب كما تعبت ذات في أكثر من قصيدة حزينة موت وجنازة .
لن نكن من زمرة العابرون والعابرات .
سنعوي كما تعوي الريح،والريح كانت سابعنا،ص8، وكما تعوي حروفك على أطفال ثكلتهم أيامهم وأيامٌ ثكلها المد ونبَدها الفجر،ص10 .
على لغو ومحطات دون قطار ووعود وانتظار.
حين يعتلي الشاعر صهوة التحدي ويعاند الوقت ويجازف ويُلممل سَهْوه تأتينا القصيدة تتمايل بكل عذوبة العالم .
لحظةً
لا يكفيني العمرُ
لِعَد شاماتك التسع في صدر الوقت
ولا الموت يثنيني
عن اشتهائي بياضي ص12
عرفتك،شرفتك ،هذا الركن التي تُطِل من خلال نحو العالم ،عالم الشاعر الإنسان ببساطته عالم بجماله بقبحه.
غرفتي في الطابق الرابع ص 7و9،16،19،21
شرفتي في الطابق الرابع
عرفة ليست معزولة عن العالم: ترمق الشمس والبحر “غرفة ملكية” ولكن يصلها بوق السيارة ، تطل على عمارة ،معمل مهجور، وحارس عمارة بديء الإشارة تتكرر أكثر من مرة ص9.
حين نكتب من شرفاتنا الخارجية ومن شرفات الداخل نُعلن أننا جزءا من هذا العالم،منفتحين عليه، ونعرف مسبقا أن ما سنراه من هذه الشرفة الخارجية الداخلية والشرفة الثانية الرمزية هو كل الديوان ،غرفتي في الطابق الرابع رقمها ثمانيةُ واربعون ولها شرفتان ص23.
واحدة تلهو فيها الصغيرتان..والأخرى وارَتِ الحب بسقيفة ٍ من قصبٍ ص 60 .
لن يكون دائما جميلا ما نراه من هذه الشرفة في الطابق الرابع، وأكررها كما تكررها بل أحيانا يدمي القلب ، هي تلك العين اللعينة هي الكوة الوحيدة التي يسمح لنا بالعبور من خلالها إلى قصائد المجموعة ،وهي فسحة الشاعر على العالم الخارجي ليراه ويراك. نخاف يوما شاعرنا أن تغلق هي الأخرى كما اغلقت العديد من نقط الجمال في حياتنا، ولن يفيدنا أنها في الطابق الرابع المرتفع عن الأرض، والمتحكم في الرؤيا، والمشاهدة من الأعلى ليست المشاهدة من الأسفل ربما تنطوي هذه المشاهدة عن طبقية من نوع آخر.
يمتلئ البياض بحبر شاعرنا وعلى وقع البياض تأتي القصائد بأكثر من حالة إما صريحة واضحة مُباشِرة:
غرفتي في الطابق الرابع
تطل على عمارة في طور البناء
ومعمل مهجور وحارس سيارات ص9.
أو تختفي حول هول رموزها او خلف اشخاص عاديين نصادفهم في حياتنا اليومية باستمرار بل هم من المشهد اليومي حتى لكثرة تكرار لرؤيتنا لهم نمر دون ان نتلمس دفء وجودهم ..ولكن شاعرنا توقف والتقط الصورة ..تفاعل معها
غرفتي في الطابق الرابع ،وفوق المركز التجاري الذي بين شارعين ،عمارة حمراء تقضي فيها العابرات أوطار العابرين ص21.
في خضم الحياة بصراخها بشخوصها ،وبوق السيارت والأصوات المزعجة ص7، يعوي الصمت من هذه الغرفة تكتبه وجعا ويفتح الجرح فمه ص12.
وعلى وقع البياض تنزف القصيدة :
ووجعٌ يكبرُ بين الصاد والميم والتاء ص12
ولك اوجاعُ الصمتِ والوقتُ والكيدُ
يوقِد الصمت جمرَ الحُمى.. وألعن صمتا أوحى له الصمت
وبذات الصمت ِ والحمى أناجي الجمرَص26
هذا الصمت الذي يَصْرخ، يزأر،يَنْسجه الشاعر شكري البكري قصائد فوق بياض بقدر ما تتكرر لفظة البياض بقدر ما نقرأ دهشة الشاعر فوقه:
وأجري في البياض الذي يجزُرُ بنا الآن،ص11
بياض فقط ,,اجري فيه ويطويني وحلم يَقْظَةٍ ،وخِشيةُ غدٍ ،وسطوةُ حدس، وشهوةٌ، وخيانات أنخاب ص8 هذا المقطع المتفرد هو المجموعة الأستاذ شكري البكري.
صمت ضاج تتضح فيه الرؤيا ،وكيف لا وهو صراخ وعويل،ومسافات وقضايا، وخيبات لوطن يضيع اطفاله بين الطرقات يتعلقون بشاحنة الأزبال يبيعون المناديل وورودا حمراء للسياح ص40 .
انفعالات هي جزْر مد كأن حركات البحر هي انفعالات ذات الشاعر بل أن تراجع هذا البحر وانسحابه هي المساحات التي يتركها ليكتب فوقها الشاعر صراخ صمت:
اسند راسي إلى شرفة الصمت
وتدمدم الريح قربي
بلواعج الاشتغال
فأرى أربعين جَزْرا خلفي
وسنبلتين
تونعانِ في هذا الآن ص 13.
لم يكن هذا المقطع سوى البوابة التي سنطل منها إلى الغرفة الشهيرة رقم 48
عرفتي في الطابق الرابع ص16و18و19
ورقمها ثمانيةٌ وأربعون
وأحيانا ثمانية وأربعون جزرا
بعد الجْزر والسنبلتين والغيمات..
أكثر من قصيدة هي إطلالة شاعر نرى بعينيه ما يرى أليس هو في الطابق الرابع، شرفة يطل بها على العالم ببساطته وتعقده:
” ومن طابقي الرابع اعرف اليوم كيف تدب الحياةُ ص64 ،كاميرا تصور حركات أناس ، يلمحهم شاعر مسكون بعالمه البسيط الذي يذوب فيه: أَطلُ سياراتٌ في الاتجاهين ونباح، وحرائق نفاياتٍ، ص 14 أطل.. حارس العمارة التي بين الشارعين.. في سيارة الشرطة.. وعابراتٌ وعابرون ص24
هذه الشرفة التي تتحول إلى “وشرفتي ثامن المفازات ” هل تفاؤل بالفوز كما جاء في القاموس ( انك ترى وأنت مطمئن لنفسك )لا ازدحام ولا التصاق بالأجساد ،ولا عراك ولا سرقة من فوق الفوق، من الأعلى أو ثمن المفازات صحراء قاحلة..
لم تعد شرفة أو هذا الكم من الإطلالات شيء عاد، ما اسقط و ما شوهد منها حولها إلى عالم متحرك نابض بالحركة الحسية وبكل لواعج الاشتغال .
ورغم هذه الحركة وهذا الضجيج يقتل الوقت “ببَهْتِ الشامات والافتراء:
حتى يُفيق الوقت
تعبت قدماكَ من حملي
في غرفةٍ تُطِل على مجذوبةٍ
وحارس بذيء الاشارة ص25
هذا الشرفة التي تتكرر في عدة نصوص وهذا التكرار محبب فيه جمالية.. ولكن خفية منا و في دهشة شعرية تخبرنا :
شرفتي في طابق غير الطابق الرابع
تَفزَع من الأسماء والنجاسات وتصرخ في موتي
وأوغاد يحفرون قبرك ويبتسمون في صورة سيلفي
هذه الإطلالة ما تلتقطه لنا فظيع لا ينتمي لحقل الإنسانية…
تتجدد مواضيع هذه المجموعة هي: أوجاع شريدة،و أوجاع شاردة عن موت،وجنازة ينتقد فيها الشاعر سلوكات تتكرر لا ننتبه إليها، ولكن يكتبها لنا شعرا بسخرية سوداء تتكرر في أكثر من مقطع في هذه المجموعة:
وأَطِلُ:
تحملونني على أكتافكم
كما اَحْمِلُ قفةَ خيبات.. والنعش من خشب رديء..
وكَفَنٍ تَنْهشون بياضه
…وما تيسر من أخطاء نحوية
في آيات تباركَ وياسين ،ص36
كثير من سخرية من ظواهر جديدة تغزونا بتفاهتها ،”تحملونني على أكتافكم ، فقيه مأجور وصلاة جنازة، ثم عزاءاتُ فايسبوك ، وصور في البروفايل الواتساب ص38 وبسخرية سوداء كذلك من السعادة والسعداء:
“كيمياء عجيبة’قليل من الثقة وكثير من الغباء ص68 وكأن صاحب الفكر والمبدأ والعقل يعيش في الشقاء.
مواضيع حسرة و ضياع تصرخ بين أروقة المجموعة للفرد والجماعة، أليس في الوقت غير لغو افتراء ص66 ” لهذا الوجه وجه لا اعرفه يدركني ولا أدركه ” ص63 كيف اثأر لنفسي وهي ليس لي، أمام هذا الخذلان والافتراء أمام معادلات مجنونة لا يَقبَلها إلا منطق شعر ساخر من الأنا والآخر والمجتمع .
ومضات وطن جريح تضيع فيه براءة الطفولة ..
لا برتقال في عينيه الصغيرتين ولا وطن يُغنيه عن انتظار الضوء الأحمر ص42
ومضات حروفها طلاقات رصاص ” لا أحب الوجبات السريعةَ ولا الخيوطَ السهلةَ لترقيع العمرِ ص57 .
ابحث كإمرة تحب الشعر عن المرأة داخل المجموعة ” الخطاب الموجه إليها فيه الكثير من اليأس والضعف ،هذا النصف الذي لم يستطع أن يساعد على التغلب على الفوضى الذي يحدثها الجوار، وما تسجله كاميرا الشرفة من ظواهر اجتماعية سوداء .
وامرأة تلهو بالوتساب عن صمتي، ص39
يتكرر اسم شيماء في أكثر من صفحة” ضحكت شيماء ص 29و40, 41و 42” احسم الأمر الآن سأتعلم زَغْردَة أمي وكيف يكون اللعبُ فوق السطح مع شيماء ابنة الجيران ص 54 سأرحل الآن شيماء وحيدا ص65 “عذرا شيماء فليس للحب أن يكون ريحا في طريق سيار ص 67
ضحكت شيماء كالعذراء، ووقتها يلهج بآمين، مومياء محنطة على باب الوقت ص 40،وهذه المجذوبة التي تنطق الحكمة وتنتقد عُرينا النفاق ذهب،والغدر مجد ، والحب مصرع وقصيدكم عُهْرٌص 35.
كتابة بين مد وجزر وان كانت حالات الجزر أكثر.
فيه من القصيد مالا يمتد له المد ص 15
يشبهني هذا الجَزْرُ
فيه من القصيد ما لايشتد له المد
ومن الدهشة
ما يملأ جوف الليل ص16
وقد يشبهني هذا الجزر قبل تكرار الاشتهاء .ص17
هنا وفي ـكثر من مكان تتركنا نُبحر في الكلمة بأكثر من معنى وأكثر من دلالة
ويَجْزِرُهذا البحر،
لا يشبه الجَزْرَهذا الجزرُ،
لأنه اكبر من: رجوع، انسحاب خوف وكثير من بؤس يتركه ورائه موتى وخراب .
ر قعة الديوان، شطرنج أرقام يتحكم فيها شاعرنا يلعب بها كما يشاء ينقلها من هنا لهناك،
الأرقام حاضرة بقوة بمعناها العددي والمجازي أليس ضبط الوقت شغله الشاغل كإعلامي متمرس ؟
ويستشهد بالوقت ورمزية التاريخ كنا صناع “ساعة رمل أهداها الرشيد أضعنا هذا التاريخ لنصبح بلا وقت ولازالت مُعظلة وقت آفتنا الكبرى.
حالات العد كثيرة
السجارة الرابعة
الشامات التسع ص11
الشرفة ثمانية وأربعون وان كان هذا الرقم وماله من دلالات في تاريخنا العربي المعاصر النكبة الأولى وقيام والاعتراف بإسرائيل.
والريح سابعنا ودلالة رقم سبعة عند المسلمين ،
تسع وتسعون بذكرِ نَعْمائِهِ،ص27
وثامنها غرفة تجزع من الأرض ص12
والريح سابعنا ص8
وثلاثة غيمات ص13
شرفة مجاز، وشرفة واقع،وشرفة غد ،شرفة مفتوحة على عدة قراءات. سمحتَ لنا أن نُطِل من شرفتك على عالمك الإنساني بآلامه وخيباته وسخريته..
الصعود يحتاج إلى جهد ونفس وخبرة بعالم الاستعارات ..
هل نجحنا في الصعود إلى الطابق الرابع وإلى الشرفة الثامن والأربعون ؟؟
أتمنى ذلك ..
رشيدة الشانك