عتبة العنوان :
يشغل العنوان : ” كائنات محتملة ” حيزاً شاسعاً بأسفل الغلاف ، بينما يبدو اسم المؤلف واسم السلسلة التي أصدرت الرواية ، متزاحمين في أعلاه في مساحة متساوية مع المساحة السفلى المخصصة للعنوان .
كتب العنوان ببنط غليظ ، وخط يقوم على رسم بعض الحروف على شكل دوائر بعضها مكتمل ، وبعضها الآخر غير مكتمل. أما النقط فوق الحروف، فقد اتخذت شكل كرات صغيرة، بعضها وضع بشكل أفقي ، وبعضها الآخر بشكل عمودي. ورغم أنه يحتل الحيز السفلي من الغلاف، إلا أنه مع ذلك يتسم بالبروز والظهور ، ويثير انتباه المتلقي بخطه المتميز المنزاح عن الخطوط العربية المألوفة.
إن العنوان يختلف شكلاً وحجماً عن اسم المؤلف واسم السلسلة المصدرة للرواية. فقد كتب اسم الكاتب محمد عز الدين التازي بخط مألوف بلون أبيض في أرضية سوداء. بينما عرف اسم السلسلة « روايات الهلال » ([1]) نوعاً من التشكيل يهيمن عليه شكل الهلال.
على المستوى التركيبي نلاحظ أن العنوان مركب من وحدتين معجميتين هما : كائنات : جمع غير معرف ، خبر لمبتدإ محذوف تقديره اسم الإشارة هذه أو تلك . ومحتملة : صفة لكائنات. تؤشر الوحدة المعجمية ( كائنات ) على نكرات من الأحياء ، قد تكون جماعة من الناس أو الحيوان. وتحيل الوحدة المعجمية ( محتملة) على أن هذه الكائنات من الممكن أومن المحتمل وجودها في عالم الناس. بيد أن ما يجعل المتلقي يستبعد كون هذه الكائنات تنتمي إلى عالم الحيوان هو صورة الغلاف التي هي عبارة عن لوحة تشكيلية لفتاة أو امرأة يبدو من خلال هيئتها ولباسها أنها تنتمي إلى فئة اجتماعية فقيرة. والملاحظ أن اللوحة بالشكل الذي رسمت به ، والخلفية التي تؤثث فضاءها توحي بالأجواء الغرائبية التي سنصادفها في الرواية.
إن العنوان يكتسي أهمية بارزة ضمن العناصر الأخرى المكونة للغلاف. ولا يخفى أن ثمة قصدية لتبئيره باعتباره أيقوناً يحيل على العالم الروائي الذي وراء الغلاف. ولكن لماذا احتل العنوان على المستوى المَوقعي الفضاءَ السُّفلي للغلاف ولم يتصدر موقعاً أكثر بروزاً كأن يحتل مثلا وسط الغلاف أو أعلاه ؟
الواقع أن ورود العنوان في موضع هامشي من الغلاف له دِلالته في سياق المتن النصي.([2]) إنه يتضافر مع صورة الغلاف ليحيل على الشخصيات المهمشة التي يمتلئ بها العالم الروائي في رواية ” كائنات محتملة “. فكل الشخصيات تنتمي إلى الهامش وإلى قاع المجتمع. وحتى الفضاء المهيمن في الرواية هو فضاء مهمش منسي، ذلك هو مدينة زرقانة. يلخص السارد طبيعة هذا الفضاء ، وطبيعة الشخصيات التي تحيا فيه في المقطع الاستهلالي الذي تبتديء به الرواية كما يلي :
” كون صغير
مدينة للظلام والظمأ والغلواء ، أناسها يحيون بين الأبهاء والخرائب والحدائق والحرائق .
عالم منسي ، متأخر في زمانه راجع في أفول”. ([3])
من خلال هذه العتبة النصية ( العنوان ) يمكن الدخول إلى عالم ( كائنات محتملة ) الذي يزخر بالشخصيات والأحداث والفضاءات الواقعية والأسطورية ، والأجواء الغرائبية ، وغيرها من المكونات البنائية والتيماتية . وسنحاول مقاربته انطلاقاً من دراسة مكونات الخطاب الروائي الآتية :
السرد الروائي :
يقوم السرد الروائي في رواية « كائنات محتملة » على مسارين سرديين : المسارالسردي الأول : يتمثل في المحكي الرئيس في الرواية. وهو محكي صلاح مهندس الآثار الذي قدم إلى مدينة « زرقانة » ليرمم بها برجاً تاريخياً. وهذا المحكي لا يتخذ مساراً خطياً في السرد الروائي ، بل يرد بشكل لا يخضع لأي ترتيب أو تتابع. إنه يتبنى « نوعاً من التركيب السردي المتداخل ».) [4] (
وفي مثل هذه الرواية المنفلتة من طرائق السرد التقليدية ، يكون لزاماً على القارىء أن يفككها ويعيد تركيبها.( [5] ) و نحاول ترتيب أهم أحداث المحكي الرئيس على النحو التالي :
ـ وصول صلاح إلى مدينة زرقانة لترميم البرج التاريخي اتصاله بعبد الصادق )النادل ( صاحب مقهى ومطعم « الزهراء » اتصاله بالمهندس البلدي في مصلحة الآثار بالبلدية معاينة البرج إقامته في بيت الغرناطي والتقاؤه بالمرواني العائد من هجرته في ألمانيا وبصاحب الورقات الشجرية الثلاث وبالمعلم النجار. وبعد الإقامة الطويلة التي لم يكن يتوقعها بزرقانة ، يعود إلى مدينته الأصلية تافراوت ، ) [6] ( ولكنه لا يستقر بها ، لأنه وجدها قد تغيرت ، وألفى نفسه فيها غريباً. لدى عودته إلى زرقانة ليجد نفسه أيضاً غريباً وحيداً بعد موت المعلم النجار ولجوء صديقه الودود عبد الصادق إلى التصوف في الزاوية الحراقية بتطوان. لم يصادف إلا صديقه الغرناطي الذي عاد لتوه من مهجره بإسبانيا. لذلك يقرر مغادرة «زرقانة» رغم محاولة صديقه الغرناطي استبقاءه .
إنه مثل أغلب شخصيات الرواية الذين لا يقر لهم قرار، فهم مسكونون بالهجرة أو مدفوعون إليها دفعاً. وربما بمغادرته « زرقانة» يحقق صلاح بدوره هجرته الخاصة. يقول في آخر سطر في الرواية : « وغادرت زرقانة ، لتبقى ندوبها كندوب الوطن على جسدي ».[7]) (
المسار السردي الثاني : ويتضمن عدة محكيات تتعلق بشخصيات أخرى في الرواية. وأهم هذه المحكيات هي :
1 ـ محكي « فريديريكو سيبيانو» الذي قام بتصميم وبناء مدينة « زرقانة ».) [8] (
2 ـ محكي مقتل أخوي عبد الصادق في حادثة انفجار الديناميت في أحد مقالع الأحجار كانا يعملان فيه قرب « زرقانة».([9])
3 ـ محكي الصبية الحسناء « مباركة » التي كان الوجيه عبد الوهاب يريدها لليلة واحدة ، بينما كانت هي تريده زوجاً شرعياً.([10])
4 ـ محكي المرأة المعدنية ) نسبة إلى أهل بني معدن ( تزوجت من شخص اكتشفت أنه جاسوس لبريطانيا ، ولكنها طلقت منه بسبب ذلك رغم أن لها منه خمسة أطفال ( ([11] وهي معجبة ببطولة عبدالكريم الخطابي.
5 ـ محكي الساحرات : اللواتي كن يحرقن البخورعند أبواب منازلهن، رافعات أصواتهن بكلمات مبهمة تختلط فيها لغة البشر بلغة الجان. يمتزج في هذا المحكي الأسطوري بالواقعي. فمشهد الساحرات الموحي بأجواء السحر والأساطير، يوازيه مشهد الأجواء الواقعية المتعلقة بقوارب الموت التي كانت تأخذ سيرها في تلك الأثناء نحو المجهول في إحدى رحلات الهجرة السرية.) [12] (
6 ـ محكي الإمبراطور: محتكر بيع الحلزون في « زرقانة » .([13])
7 ـ محكي الفقيه الزرقاني الفقيه المتفتح المستنير الفكر بهتلر. ) [14] (
8 ـ محكي المُعَلِّم الانتهازي الطموح إلى الصعود إلى المجلس البلدي ثم إلى البرلمان بطرق غير مشروعة. ([15])
9 ـ محكي السي يوسف : صاحب الملف الثقيل حول أوضاع « زرقانة» الفاسدة. ويحاول أن يندد بهذا الفساد عن طريق الصحافة .) [16] (
10 ـ محكي المرواني : حصل على جواز السفر و سافر إلى إسبانيا ثم إلى ألمانيا صحبة السلامتي .) [17] (
11 ـ محكي الغرناطي من خلال الرسائل التي يبعثها إلى خطيبته عشوشة يروي الأحداث التي وقعت له في مغامرته وهجرته السرية في قارب مع 17 رجلاً وامرأة. ) [18] (.
12 ـ محكي سعد الدين ابن المعلم النجار محمد المرغادي الأندلسي الأصل ، ويتلخص في أنه أجبر على النفي الاختياري إلى إسبانيا على متن قارب من صنع أبيه النجار فراراً من حكم قاس بالسجن مدة عشرين سنة في واحدة من محاكمات الرأي التاريخية التي كانت شهدتها البلاد أوائل الثمانينيات ) [19] (
13 ـ محكي مشاجرة المرواني مع اليهودي عزرا الذي يكره العرب. وسببها هو أن الإسرائيلي عرف أن المرواني مغربي ، وأن المغرب أرسل تجريدتين واحدة للجولان ، وأخرى لسيناء ، ومعنى هذا أن بلد المرواني أعلن الحرب على إسرائيل. ) [20] (.
14 ـ محكي المرواني مع مونيكا : المرأة الألمانية ، مستخدمة البنك التي منحته جسدها وأحبته بعنف. ) ( [21]
15 ـ محكي المرواني مع الإسبانية الغرناطية التي عشقت فحولته وأرادت الذهاب
معه متخلية عن كل ما كانت تملك. ([22])
16 ـ محكي المرواني مع الحولاء : لقد حدثَ ما تنبأت به الهبلاء للمرواني ، فتزوج من الحولاء ، ولكنها خانته في ألمانيا. وعندما اكتشف الأمر، أخذ يسكر ويضربها ضرباً مبرحاً. وحال وصولهما إلى تطوان ، طلقها وأخذ ابنه بشراً بعد أن تخلت أمه عنه. ) [23] )
يرصد السارد من خلال هذه المحكيات عالم « زرقانة » الذي يمتزج فيه الواقعي والتاريخي بالأسطوري والغرائبي. والملاحظ أن أحداث الواقع في بعض هذه المحكيات هي أغرب وأعجب من الأحداث التي تقع في الأساطير والخرافات. وهذا يدل على أن ثمة واقعاً مأساوياً تعيشه “زرقانة” وأناسها البسطاء. (للدراسة بقية)
الهوامش :
[1] ـ تجدر الإشارة إلى أن هذه السلسلة الأدبية المصرية المتخصصة في إصدار الأعمال الروائية ، قد أصدرت مئات الروايات لأبرز الروائيين العرب والغربيين . وقد نشرت هذه السلسلة إلى حد كتابة هذه السطور أربع روايات لأدباء مغاربة هي : ” إكسير الحياة ” للأديب الفيلسوف المرحوم محمد عزيز الحبابي ، عدد 303 ، مارس 1974 ؛ ” البعيدون ” لبهاء الطود ، عدد :626 ، فبراير 2001 ؛ “كائنات محتملة” لمحمد عز الدين التازي ، عدد : 651 ، مارس 2003 ؛ ” المصري ” لمحمد أنقار ، عدد : 659 ، نوفمبر 2003 .
[2] ـ انظر: عبدالمجيد نوسي ، التحليل السيميائي للخطاب الروائي ، ( البنيات الخطابية ـ التركيب ـ الدلالة ) ، ط.1 ، شركة النشر والتوزيع ـ المدارس ، الدار البيضاء، 2002 ، ص : 113 . والجدير بالإشارة أنني أفدت في دراسة العنوان من المبحث الخاص بسيميوطيقا العنوان ، ص : 108 وما بعدها.
[3] ـ الرواية ، ص : 9 .
[4] ـ أحمد اليبوري ، في الرواية العربية ، التكون والاشتغال ، ط.1 ، شركة االنشر والتوزيع ـ المدارس، الدارالبيضاء ، 2000 ، ص : 85 .
[5] ـ انظر نفس المرجع ، ص : 85 .
[6] ـ أحمد اليبوري ، في الرواية العربية ، التكون والاشتغال ، م.س .ذ ، ص : 85.
[7] ـ الرواية ، ص : 153 .
[8] ـ الرواية ، ص : 13 .
[10] ـ الرواية ، ص : 24 وما بعدها .
[11] ـ الرواية ، ص : 26 وما بعدها .
[12] ـ الرواية ، ص : 28 .
[13] ـ الرواية ، ص : 30 وما بعدها.
15 ـ الرواية ، ص : 31 ومابعدها.
16 ـ الرواية ، ص : 33 وما بعدها.
[17] ـ الرواية ، ص : 92 وما بعدها .
[18] ـ الرواية ، ص : 100 .
[19] ـ الرواية ، ص : 113 .
[20] ـ الرواية ، ص : 129 .
[21] ـ الرواية ، ص : 133 ومابعدها.
[22]ـ الرواية ، ص : 135 وما بعدها.
[23] ـ الرواية ، ص : 137 وما بعدها.
بقلم : عبدالجبار العلمي