الحمد لله رب العالمين، الذي تفضل بتنزيل كتاب كريم، يهدي الناس ويبشر المؤمنين. و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الأمين، وعلى أله وصحبه الطيبين الطاهرين. قال رسول الله (ص): [روحوا القلوب ساعة، بعد ساعة، فإن القلوب إذا كلت عميت﴾. فبسرور فياض، يطيب لي أن أقدم كتاب «المحاضرات لأبي على اليوسي بين النمطية والخصوصية» للأستاذ الباحث الدكتور محمد الأمين المؤدب. يقع كتاب المحاضرات لأبي علي اليوسي بين النمطية و الخصوصية في
اثنتين وستين صفحة، وهو الإصدار الثاني من سلسلة « مقامات كتابية « لبنية البحث، ملتقى الدراسات المغربية و الاندلسية بآداب تطوان، وطبعته الأولى بطنجة في يناير 2014.
كتاب المحاضرات لأبي علي اليوسي من أهم مصادرنا الأدبية في القرن الحادي عشر الهجري التي لا يستغني عنها الباحث و الدارسون للثقافة المغربية، ومادة الكتاب خصبة ومتنوعة ، تشتمل على آيات قرآنية كريمة و أحاديث نبوية شريفة و أخبار و حكايات طريفة ومستملحات ونوادر و أشعار و تراجم لأشخاص اختلفت عصورهم ومشاربهم وطبقاتهم ومثل هذه
المادة تساعد على تنمية معرفة الباحث وتقوية لغته واطلاعه على المصادر القديمة، فالقارئ لكتاب المحاضرات لأبي علي اليوسي يعيش لحظات المرح والدعابة والظرف مع أناس مارسوا الحياة فدونت تجاربهم وسجلت معاناتهم وحللت أنماط سلوكهم لتبقى دروسا.. وأما دواعي التأليف لكتاب «المحاضرات» فقد كانت بمثابة عملية إفراغ فني لمحبي الأدب في هذا العصر و على رأسهم اليوسي مراعاة لحال وقت كان يفرض على هؤلاء دفعا للبطالة و الملل و إيداع عملهم واجتهادهم بطون الأوراق. والغرابة والطرافة هما طابع المادة التي
اختارها اليوسي لتكون أساس مؤلفه «المحاضرات» من أشعار وأخبار وأحداث ونوادر، وهذه المادة تظهر ذوق المؤلف وذوق معاصريه ومفهوم الأدب عندهم. ومما نستخلصه من
كتاب المحاضرات لأبي علي اليوسي هو:
- انتفاءهلعيون الأخبار والأشعار
- اعتمادهعلى الرواية
- غايتهتعليمية وترفيهية وتربوية، فالكتاب هدفه هو الأخذ من كل فن بطرف، وتهذيب الذوق الأدبي وإظهار البعد الجمالي، وتنشيط الفكر والموعظة الحسنة والخلق الكريم
- والحكمة البليغة والمثل السائر وكل ما يلم بجوانب النفس الإنسانية في حالتي قوتها وضعفها. لا ريب أن هذه الدراسة التي بين أيدينا لكتاب «المحاضرات لأبي علي اليوسي
- بين النمطية و الخصوصية» ولدت من رحم عشق المؤلف الأستاذ محمد الأمين المؤدب لأبي علي اليوسي ولكتاب « المحاضرات». فالموضوع المطروح في هذا الكتاب غير
- مسبوق -حسب علمي- رغم الكتابات العديدة التي تناولت كتاب «المحاضرات» لأبي على اليوسي بالدراسة والتحليل، فلا أحد تناول ظاهرتي التجنيس والتصنيف، وحاول الوقوف عندها كما حصل في هذا الكتاب « المحاضرات لأبي على اليوسي بين النمطية والخصوصية «مما يضفي عليه قيمة معرفية استثنائية خاصة، تجعل منه مرجعا أساسيا فريدا، لا غنى لكل باحث مهتم بكتاب « المحاضرات» لأبي علي اليوسي. وإن مفتاح القيمة لهذه دراسة تعكسها خطة البحث العامة التي تمثل تمكن الباحث الأستاذ محمد الأمين المؤدب من موضوعه، وكفاءته العلمية وقدرته على التحليل و الدرس لأنها تشكل المنهج الخارجي للدراسة وبدونها يفقد البحث قيمته العلمية وأكد هذه الحقيقة الفيلسوف ديكارت (1596-1650) بقوله:» خير للإنسان أن يعدل عن التماس الحقيقة من أن يحاول ذلك من غير منهج».
إن القراءة المتأنية لخطة البحث تمكننا من رصد ملاحظات منهجية يمكن إجمالها في:
- شموليةالعنوان في علاقته الجدلية بعناصر خطة البحث بدءا من الإضاءة مرورا بالمسألتين اللتين يراهما الباحث جديرتين بالدراسة والتحليل. أولاهما: تتعلق بإشكال التجنيس
- والتصنيف. وثانيتهما: تتعلق بخصوصية الكتابة والتأليف. في المسألة الأولى أماط اللتام عن أصناف العلوم الأدبية يقول المؤلف «لم تكن علوم الأدب، حتى أواخر القرن
- الخامس الهجري ، قد حصرت في عدد معين، ولم يكن «علم المحاضرات» ليدخل طوال هذه الحقبة التاريخية، ضمن هذه العلوم على تعددها واختلاف القول فيها، فقد كان
- العلماء الذين ينظرون في تلك العلوم، من الوجهة التصنيفية، ولا سيما الأدبية منها، يعددون كثيرا من الأصناف ،ولا يعدون منها «علم المحاضرات»، خاصة ما يتصل بما يدور
- في فلكه من كتب المجالسة و المؤانسة و المذاكرة، وما أشبه ذلك.
والمتتبع لهذه الأصناف من العلوم الأدبية، يستحضر تصنيفين بارزين لهما حضور قوي في الثقافة العربية.
أولهما: تصنيف أبي البركات ابن الأنباري (577هـ) الذي يقرر ان هذه العلوم قد حصرت في ثمانية. وثانيهما : تصنيف أبي جعفر الرعيني (799هـ) في شرح بديعية ابن جابر الهواري
(789هـ).
ويستخلص المؤلف النتيجة التالية وهي أن ‘علم المحاضرات ولا سيما إذا استحضرنا تداول هذين النصين وأمثالهما في الثقافة العربية وما بين القرنين السادس و التاسع الهجريين لم تكن تعد من أصناف العلوم الأدبية، على الأقل من الوجهة التصنيفية ثم انتقل المؤلف بسلاسة لخلخة التصور القديم لكتب المحاضرات وفتح بابا جديدة في تصنيف المحاضرات تجديدا لهما وتطويرا يقول: ‘المؤلف ‘ وقد اعتمد هذا التصنيف لدى المتأخرين ورشحته كتب الفهارس و البرامج و الأثبات، على نحو ما نجد في كشف الظنون ، ومفتاح السعادة و ما تعارف عليه الناس اليوم،
وإن تطور مفهوم المحاضرة إلى حد ما ، في عصرنا الحاضر، على نحو ما هو معروف في المجالس و المنتديات وفي المحافل العلمية و الجامعات. يستعرض المؤلف مجموعة من
المؤلفات ألفت تحت هذا العلم ‘علم المحاضرات ‘ فنستنتج منها أن ليس لأبي على اليوسي فضل سبق التأليف في علم المحاضرات. وينبهنا الكتاب إلى اختلاف مؤلفات المحاضرات في أسمائها وعناوينها وطريقة عرضها ، ولكنها تكاد تتفق مع موضوعها العام وبمراجعة أسماء وعناوين بعض الموسوعات العربية و الأمهات نعثر على عدد كبير من الأدباء و الكتاب الذين ألفوا في هذا الحقل الأدبي، بل أنهم كانوا يتفننون في تسمية مؤلفاتهم وتسمية ابوابها بأسماء الجواهر و الأزهار و الثمار و الرياض و الحدائق الى غير ذلك من الأسماء
سواء في المشرق أو الغرب الإسلامي مثال ذلك «زهر الآداب» للحصري ، «عيون الأخبار» لابن قتيبة ،و «الكامل» للمبرد، و «العقد الفريد» لابن عبد ربه ، و»الأغاني «لأبي الفرج
الأصبهاني واللائحة طويلة. يمكن الرجوع الى الكتاب للاطلاع عليها، وبعد ان يحدد الكاتب مفهوم المحاضرة برجوعه الى خيرة المعاجم وأحسن المصادر يستعرض علينا السمات التي تقوم عليها المحاضرة بل أهمها.
– انتخاب مارق وراق من ثمار الأوراق، بما اشتملت عليه من الإفادات و الإنشاذات والغرائب المستعذبة به، والحكايات الممتعة والأمثال السائر والأبيات الرائقة، والأخبار الشائقة. و في سياق الاختيار الدقيق و الطريف يقدم المؤلف نصا من بين النصوص، المتميزة و الطريفة، سواء تعلق الأمر بموضوعها أو ببنيتها اللغوية او التركيبية قصد إضفاء طابع الجمالية
و المرح على النص الذي يلج الأذن من غير استئذان ويولج المثمر من غير استثمار.
ثانيا: محاضرات اليوسي وخصوصية التأليف.
يستعمل المؤلف كتاب «المحاضرات» دون زيادة كما هي (الأدب و اللغة )لأنها في نظره لا تستقيم بالنظر إلى مفهوم المحاضرات على نحو ما بين المؤلف في الدراسة ، ولا ينص
علية مؤلف الكتاب لأن زيادة الكلمتين (الأدب واللغة) تشوش على الملتقي وتجني على المؤلف اليوسي وتخالف ضوابط التحقيق، وبما توفرت للمؤلف من أسباب الامتناع والإفادة
بفضل اطلاع الواسع وقدرته على امتلاك ناصية الكلام وهي مسألة لا تتحقق إلا بتناغم كل عناصر الكتابة، بدءا باللغة الجميلة مرورا بالأسلوب الشيق، وصولا إلا حبكة التركيب البنائي التي تحقق لهذا التأليف ما يمكن تسميته بالتأليف الطريف، وهي صفة تعكس شخصية الأستاذ محمد الأمين المؤدب الإنسان والأستاذ الباحث، توصل إلى أن كتاب المحاضرات رحلة علمية ، ولكنه في الوقت نفسه رحلة واقعية تجري أحداثها بين ربوع المغرب التي زارها اليوسي يوم أن ترامت به الأقطار وتباعدت به الأوطان و الأوطار يضيف الباحث أن الباعث على الرحلتين معا ظروف الدهر ، ونوائبه فإن الدهر كما يقول أبو علي اليوسي: إن الدهر أبو العجائب، و ينبوع الغرائب، وان للعاقل على مرور الجديدين علما جديدا حيث انتهى فهمه كما له عيش تهدي ساقه قدمه.
ان تواجده بمدينة فاس يضيف الكاتب أنه لم ير في أهلها سرور أسره ، وعاش فيها يعاني من أولئك المنافسين الذين كان بيدهم مقاليد المعرفة و دواليب العلم حيث قال أبياته
المشهورة .
علمي ولا عرفوا جلالة منصبي
ما أنصفت فاس ولا أعلامها
راعي السنين إلى الغمام الصيب
لو أنصفوا لصبوا إلي كما صبا
ولكن سرعان ما بدا له الجواب على نفس الروي و الميزان من منافسه أبي زيد عبد الرحمان الفاسي و في خضم هذا الصراع مع أسرة ال الفاسي عبد القادر الفاسي و ابنه عبد الرحمان ألف اليوسي كتابه « المحاضرات» يقول صاحب فهرس الفهارس: « بسبب ما وقع بينه وبين أبي عبد الرحمان بن عبد القادر الفاسي رحمهم الله لما افتتح التفسير بالقرويين» ونضيف كيف بالتركيز على هذه القصة وكتاب المحاضرات يمتاز بليونة
العطاء امتيازه بفصاحة البيان والأداء، حتى انه لم يحجم فيه عن الاعتذار عن البيتين بقوله: (لكن للنفس فرطات ولا بد لها أحيانا من سقطات)
ومن مظاهر خصوبة هذا الكتاب إثارته لعدة قضايا هامة ومصطلحات دقيقة مثل النمطية والخصوصية يقول المؤلف: تفيد كلمة نمط في أصلها اللغوي معنى التشابه والتماثل
والتقارب فقدو ورد في لسان العرب، النمط جماعة من الناس أمرهم واحد، كما وردت فيه معان أخرى تلتقي في جوهرها مع المعنى السردي إن للكتاب أهمية ملحوظة لأنه يدرس
مجال تحديد مفهوم المصطلح ولا عجب في ذلك والمؤلف متخصص في الموضوع ، وقد اشتغل على هذه الثنائية النمطية و الخصوصية وقبلها اشتغل على ثنائية الأتباع والابتداع
في الشعر الأموي القصيدة المادحة نموذجا . وأما الخصوصية بفتح الخاء وضمها، و الفتح أفصح والخصوصية تعني الانفراد والتميز وما يرتبط بهما .
لقد وفق المؤلف الأستاذ محمد الأمين المؤدب كل التوفيق في ابراز خصوصية كتابه «المحاضرات « لأبي علي اليوسي بين النمطية و الخصوصية، وكان فطنا جدا حين أثار مسألة
الخصوصية في كتاب المحاضرات لأبي علي اليوسي وربما كما قلت من قبل أنه الباحث الوحيد الذي أثار هذا الاشكال وسيترك الباب مفتوحا على مصراعيه لمن يريد أن يبحث أكثر
ويتعمق في هذه الإشكالية، إشكالية خصوصية كتاب «المحاضرات لليوسي». وينهي المؤلف كلامه عن وجوه التفرد و الخصوصية بقوله والحق أن أبى علي اليوسي، قد تفرد في
محاضرات بجملة أمور فقد خص كتابه هذا بترجمة وافية لنفسه حتى كأنه سيرة ذاتية، خلافا لما عهد في كتب المحاضرات، ولا نكاد نستثني من ذلك إلا كتاب « حسن المحاضرة» الذي ترجم فيه جلال الدين السيوطي لنفسه.
– واتكأ فيه، من حيث المنهج والمادة اتكاء كبيرا على المثل القاتل: « خير العلم ما حوضر به» لكنه اعتمد ما حضره من علم، وما شاهده وقائع على نحو لم يسبق لمثله.
واعتمد فيه على الشخصية العلمية والسياسية الاجتماعية أكثر من اعتماده على النصوص التراثية خلافا لأمثاله ممن كتبوا في فن المحاضرات. ويضيف المؤلف محمد الأمين
المؤدب : وربما كان لليوسي تصوره للكتابة هو السر الكامن في تفسير جدلية المماثلة والاختلاف التي يتأسس عليها كتاب المحضرات، يقول اليوسي نفسه في سياق حديثه عن
دواعي التأليف:» وانما حملني على ذلك أمور منها استمطار علم جديدي عند الاشتغال بالتقييد فإن العلم كالماء نباع وبعضه للبعض بناء ويختم المؤلف كتابه بقول عبد الحي
الكتاني في كتابه فهرس الفهارس: « أن أبى علي اليوسي عالم المغرب ونادرتيه وصاعقته في سعة الملكة، وفصاحة القول واللسان مع الزعامة والإقدام، وكثرة التصنيفات على طريق بعد العهد بمثله، وهو الكلام
المرسل الخالي نت النقل إلا ما لا بد منه.
وبعد هذه الوقفة مع كتاب «المحاضرات» يتبين لنا وكأنه ألف ازدهار تأليف الكتب الأدب العامة أيام العباسين، إذ المصادر مصادر ذلك العصر والأسلوب بمتني سليم، والتفكير حر مبدع لا يعرف قيود التقليد و الترديد. ويختم كذلك المؤلف بعبارة (و لله الأمر من قبل ومن بعد) و الجدير بالإبراز حرص المؤلف محمد الأمين المؤدب على المصادر الموثقة حتى
تكون مادته المدروسة موثقة واستنتاجاته وأحكامه علمية دقيقة ، حريصا على الحقيقة، لأن الحقيقة لا تنبلج إلا لمن كان مهيأ برؤيتها، وقد سئل أرسطو «لماذا تناقض أفلاطون في
أرائه وهو صديقا؟»، أجاب: «إن أفلاطون صديقي، ولكن الحق أولى بالصداقة منه».
إن هذا الكتاب الذي يندرج ضمن المؤلفات الثقافية و الأدبية التي أنتجها الدكتور محمد الأمين المؤدب، يتميز بجملة من السمات و الخصائص التي تجعل منه مؤلفا ذا قيمة علمية وفكرية ثقافية كبيرة أبرزها الشمولية و التماسك و الالتحام، وهذا راجع على أمور منها، التجربة الطويلة للمؤلف محمد الأمين المؤدب في مجال البحث العلمي وتحكمه القوي في
الموضوعات المختلفة التي درسها، و الاحتكاك بها احتكاكا جعله يأخذها بناصية الكتابة دونما نصب أو عناء، و الرؤية العلمية الواضحة التي قاد على هدي منها بارز المعالم بين
انقسامات متماسك الأطراف الأجزاء، على صفاء العبارة وخلوها من الحشو ، مما استوقفني وأنا أقرأ الكتاب هذا الصفاء الذي يصل درجة الشفافية و اللمعان في العبارة التي كتب
بها، فعلى الرغم من صغر الكتاب فلا تعتر فيه على حشو، ولا تقف على إيجاز مخل، و الأمر على كل حال ليس بغريب على أمثال المؤلف محمد الأمين المؤدب الذي تمرس بالبحث
العلمي دراسة وتحقيقا بالجامعة المغربية. أدام الله الأستاذ الباحث الدكتور محمد الأمين المؤدب وزاده بسطة في العلم والرزق ونفع بعلمه البلاد والعباد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جميلة رزقي