نقف عند الكتاب الخامس والأخير والذي ينتقل لو بون فيه من الجزء النقدي للتعليم الفرنسي بجميع مكوناته إلى عملية اقتراح الأصول التي ينبغي أن تقوم عليها التربية والتعليم..
«روح التعليم والتربية»
يقع هذا الكتاب في خمسة فصول، الأول بعنوان «الدعائم النفسية للتعليم» يصف لو بون السبب الرئيسي لإحباط محاولات إصلاح تدني مستوى التعليم الفرنسي..
ويرى لو بون أن القواعد الأساسية النفسية للتربية والتعليم يمكن اختصارها في صيغة واحدة وهي أن التربية فن يعين على تحويل الشعوري إلى لاشعوري فمهما كان الشيء المراد تعليمه للطفل سواء أكان لغة أو فن اصطناع الدراجة أو ركوب الخيل أو التوقيع على البيانو، فالحركة الآلية واحدة، وهي تحويل الشعوري إلى لاشعوري بواسطة تنادي الخواطر الذي يخلق الحركة اللاإرادية.. أظهر علم النفس الحديث أن أثر اللاشعوري في حياتنا اليومية أشد وأبعد من أثر الشعوري ومن هنا يتبين أن نفهم أثر التربية في تكوين أخلاق الشعوب وصفاتها حسنة كانت أم سيئة، فهذه الأخلاق والصفات إنما هي نتائج البيئة والظروف التي تحيط بهذه الشعوب في عصرٍ من العصور..
ومما تقدم يمكن الإجماع على أن قواعد التربية لا يمكن استنباطها إلا إذا دُرس علم النفس بالقياس إلى الأطفال والحيوان درسًا مفصلًا، وتم التعرف بكل دقة كيف نخلق عند الطفل وعند الحيوان العادة والغريزة صحيحًا، وقد نصح المسيو في كتاب نشره سنة ١٨٩٠ حين كان وزيرًا للمعارف « لبون بورجوا « الأستاذ أن يعتمد على نفسية الطفل في التربية وعلى نفسية الشاب في التعليم، وقد لاحظ أن الأولى لم تُدرس إلا درسًا متقطعًا وأن الثانية لم تدرس قط، ورغم أهمية نصائحه إلا أنها لم تحظ بالاهتمام ..
أما في الفصل الثاني الموسوم بعنوان « الأسس النفسية للتربية :
نؤكد لو بون أن الغاية الصحيحة للتربية إنما هي تقوية بعض الأخلاق والصفات كالشخصية والابتكار والإرادة والشعور بالتضامن وما يشبه ذلك، ولا سبيل إلى تقوية هذه الصفات إلا بتمرينها ولا سيما أقلها ظهورًا عند الفرد. وإذا كان الأمر كذلك فعمل التربية إنما هو تقوية الفضائل ومحاربة الرذائل، ومن هنا لم تكن التربية واحدة بالقياس إلى الشعوب كلها، فلكل شعب مزاياه التي يجب تقويتها ونقائصه التي يجب إضعافها . كما أن نظام الجامعة عندنا فهو لا يقاوم نقائصنا وإنما ينميها وهذا ما يفسر الانحطاط الذي عرفته بعض الأمم اللاتينية..
وبما أن الأخلاق لا تُكسب بالمنطق أو البحث النظري وإنما تكسب بالتمرين والتدريب، ومن هذه الأخلاق ما هو وراثي وهي أخلاق الشعوب، فهذه الأخلاق محتاجة إلى قرون لتُكتسب، وأثر التربية فيها قليل، ولكن التربية مع ذلك تستطيع أن تقويها وتنميها.. و يحتاج المربي إلى كتبٍ مفصلة في تطبيق هذه النظرية التجريبية دائمًا التي تنال التربية والتعليم معًا إلى :
- تنمية الملاحظة والدقة ..
- تنمية الميل إلى النظام والتضامن وقوة الحكم وما يشبهها..
- تنمية الإرادة ومضاء العزم..
وفي الفصل الثالث وهو بعنوان «تعليم الأخلاق»
يؤكد لو بون على أن المنزلة الخلقية هي مقياس ما تصل إليه الشعوب من الحضارة والقوة،.وليس من شكٍ في أن الأخلاق تتغير بتغير الأزمنة والشعوب، ولكن ليس من شك أيضًا في أن الأخلاق ثابتة بالقياس إلى شعبٍ بعينه في زمنٍ بعينه. وإذا كانت الأخلاق مقياس الحضارة والقوة فليس من نزاعٍ في أنها إذا تزعزعت أو انهار بناؤها فقد فسدت الحضارة وانحلت القوة وتعرض وجود الشعب للخطر..
إن التربية الخلقية ككل نوعٍ من أنواع التربية معتمدةً على التجربة وحدها، لا على المواعظ والحِكم التي امتلأت بها الكتب والتي يستظهرها الأطفال في غير جدوى. وليس في التعليم الخلقي خيرٌ إذا لم يستطع الأستاذ أن ينبه تلميذه إلى الخير والشر بواسطة التجربة؛
ولن تتم التربية الخلقية إلا إذا أصبح عمل الخير واجتناب الشر عادة لاشعورية يأتيها الطفل دون أن يشعر بشيء ..
إن تعليم الأخلاق يستلزم الاجتهاد في تعويد الطفل أن يعمل الخير ويجتنب الشر، لا في أن تلقى إليه الحِكم والمواعظ في دروسٍ لا خير فيها، ومع ذلك فإذا لم يجد الأستاذ بُدا من إلقاء الدروس فليسلك في ذلك سبيلًا سهلة تلائم قوة الطفل، فيبتدئ بدرس الأخلاق في عالم الحيوان، مبينًا للطفل أن الجماعة لا تكاد تأتلف حتى تكون لها أخلاق وعادات.. فبالرجوع إلى تاريخ الحضارة يتبين كيف خرجت الأمم من جهالتها حين كونت أخلاقها، وكيف عادت إلى هذه الجهالة حين فرطت في هذه الأخلاق.
أما الفصل الرابع وهو بعنوان « تعليم التاريخ والآداب»
شرح لوبون أن التاريخ إما أن يكون فنا من فنون « جريار « الأطفال، وإما أن يكون ضربًا من ضروب الفلسفة. فهو إذا كان فنٍّا من فنون الذاكرة كما هي الحال في الجامعة لم ينفع ولم يفد وربما ضروأساء، وهو لن يكون ضربًا من ضروب الفلسفة إلا مع تقدم السن ونمو العقل والقدرة على التفكير، فدرس التاريخ كما هو الآن لا يخلو من مضرةٍ أخرى، وهي أن حوادث التاريخ الكبرى إنما تمثل انتصار الرذيلة وفوز الغش والمكر والخديعة والظلم.. وليس من شأن هذه الأشياء أن تكوِّن العقول وتهذِّب الأخلاق. ومضرة أخرى ليست أقل خطرًا وهي أن المؤرخين لا يتفقون في قدر الحوادث ولا في فهمها وتأويلها مهما يكن نصيبهم من الذكاء والتعمق، والطفل عاجزٌ عن أن يقارن بين آرائهم المختلفة ويحكم فيها، فدرس التاريخ في الكتب إذن بعيد كل البعد عن أن يستقيم منه للتلميذ رأي صحيح.
من جانب آخر ينحصر تعليم الجامعة للآداب في تحليل بعض الكتاب المعروفين وتغيير شيء من آثارهم تفسيرًا نحويٍّا، وفي هذه الدقائق الكثيرة العقيمة التي يتقنها الأساتذة ولا ينتفع منها التلاميذ، وقد شعر أساتذة الجامعة أنفسهم بعقم هذا التعليم ووصفه المسيو وصفًا دقيقًا، فقال إنه مفسد للأخلاق مثبط للهمم..
وفي الفصل الخامس وهو بعنوان «تعليم اللغات»
فيرى لو بون أن الأطفال جميعًا يتعلمون لغة البيئة التي يعيشون فيها ويتكلمونها دون درس ظاهر أو عناء بيِّن ولن تتغير هذه النتيجة ما دام الأساتذة على ما هم عليه من ازدراء تعليم اللغات وسوء فهم هذا التعليم، فقد أثبت البحث أمام لجنة التحقيق وشهد بذلك مسيو أن الأساتذة يزدرون تعليم التلاميذ أن يتكلموا أو يكتبوا لغة من اللغات، وهم يعنيهم أن يدرسوا مع تلاميذهم كبار الكتاب والشعراء كما يفعل أساتذة الأقسام العليا في الجامعة، أما تعليم الكلام والكتابة فليس من شأنهم..
وفي الفصل السادس وهو بعنوان «تعليم الرياضة»
يبين لو بون دور الرياضة في التربية، فقد ألفت الأمم اللاتينية درس الرياضة وأبلت فيه بلاءً حسنًا وتفوقت فيه على غيرها من الأمم، وهي تعتقد أن إتقان هذه العلوم دليل الرقي والتفوق؛ ولهذا تتخذ هذه العلوم والامتحان فيها وسيلة إلى دخول المدارس الراقية جدٍّا، ويُخيل إلى هذه الشعوب أن من امتاز بالملَكة الرياضية فقد امتاز بشيءٍ عظيم، وليس من شك في أن هذا غلو وإسراف، فإن هذه الملكة كغيرها من الملكات، والامتياز بها لا يثبت لصاحبه فضلًا على غيره من الناس.
أما الفصل السابع وهو بعنوان «تعليم العلوم الطبيعية وعلوم المواليد الثلاثة»
ليس هناك طريقة أنجح إلى تكوين العقل وتنمية الملاحظة والحكم من درس علوم المواليد الثلاثة؛ لأن هذا الدرس يظهر للطفل وللشاب وللرجل أن في الشيء الضئيل الذي نزدريه، في العشب في الحشرة في الحجر، عالمًا ملؤه العجب. فهو إذن ينمي ملاحظته وينمي حكمه ويحسن رأيه فيما حوله. ولكن الجامعة استطاعت أن تجعل هذا الدرس اللذيذ المنتج ثقيلًا عقيمًا، فهي لا تحفل بالأشياء وإنما تضع مكان الأشياء وصف الأشياء. فالتلميذ لا يعرف شيئًا مما حوله وإنما يحفظ كتبًا ويستظهر دروسًا يتلوها وقت الامتحان عن ظهر غيبوبالتالي المنهج الذي اتخذ في هذا الدرس منهج عقيم فالطالب لا يقضي أشهرًا بعد الامتحان حتى يكون قد نسي ما حفظ..
وأما الفصل الثامن بعنوان «تربية أبناء المستعمرات»
يرى لو بون أن نقل المناهج التعليمية السيئة إلى المستعمرات التي نحكمها أنتجت أقبح النتائج وقد أظهرت التجربة أن الشعوب المستعمرة ولا سيما الشعب الفرنسي قد فشلت في تربيتها للمستعمرات، ذلك أن تربية أمة لأمة إنما تنجح وتؤتي ثمرها إذا استطاعت الأمة المربية أن تنسى مثلها الأعلى الخاص، وأن تضع أمام الأمة التلميذة مثلًا أرقى قليلًا من مثلها الأعلى الذي ألفته..
تعتقد الشعوب المتحضرة أن التعليم يمكن أن يُتخذ وسيلة إلى التربية، ومع ذلك فالتعليم يعتمد على الذاكرة يملأ الرأس بالمعلومات، وقد يكون لهذا أثره في تنمية ملكة الحكم والفهم، ولكن أثره قليل جدٍّا أو غير موجود في تربية الأخلاق، فليس بين الأخلاق والذاكرة صلة وليس بين الأخلاق والمنطق صلة، وإنما المؤثر في تربية الأخلاق هو المثل والبيئة. وهنا كشيء آخر يضاعف خطأ هذه الشعوب في تربية الأمم المنحطة، فهي تعتمد في تربية هذه الأمم على التعليم وعلى التعليم بلغاتها الأوروبية، وليس من شك في أن هذه اللغات الأوروبية بعيدة كل البعد عن عقول هؤلاء الناس..
أما الفصل التاسع بعنوان: « التربية بواسطة الجيش أثر الخدمة العسكرية في التربية»
يؤكد لو بون أن تعليم الجامعة إذا كان ضعيفًا رديئًا فالتربية فيها غير موجودة، وقد أجمع على ذلك الناس على اختلافهم، في حين شعر الناس منذ زمن طويل بنفع الخدمة العسكرية الإجبارية في الإصلاح العام وإزالة ما تركت الهزيمة الأخيرة من الآثار السيئة، واعتقدوا أن هذه الخدمة العسكرية ستزيل الاختلاف الحزبي وتكوِّن الوحدة القومية، وتوجِد في نفوس الشعب كل هذه الفضائل القيمة التي تستظل بظل اللواء.
لكن التجربة أظهرت العكس، فلم تؤت هذه الخدمة ثمراتها، ومصدر ذلك حسب لو بون عدم فهم الضباط المكلفين بتربية الجيش لواجبهم وعدم أداءه على الوجه الأكمل، ولتحقيق ذلك فالأمر موقوف على المدرسة الحربية التي يجب أن يتعلموا فيها من مناهج التربية ما يمكنهم من أن يحسنواالتأثير في نفوس رجالهم، وأما إجادة الأمر فموقوفة على إجادة الطاعة. وإذن فيجب أن يعمل الضباط عمل الجندي سنة مثلًا ليعرف كيف يطيع، فهو إذا أحسن الطاعة أحسن الأمر.
في نهاية هذا الكتاب يؤكد لو بون على أن اختيار مناهج التعليم أشد أثرًا وأجل خطرًا بالقياس إلى الشعوب من تغيير نظمها السياسية والاجتماعية، وإذا كان التحقيق البرلماني قد أظهر أن جمهور الناس لا يفهم مسألة التربية على وجهها فهو قدأظهر في الوقت نفسه أن هذه المسألة قد أخذت تشغل هذا الجمهور بنوعٍ ما، فعسى أن يزيد اشتغاله بها وأن ينتهي ذلك إلى تغيير وجهة الرأي العام فيها، ويضيف لو بون أن مستقبل فرنسا رهين بالحل الذي ستنتهي إليه مسألة التربية.
د. فدوى أحماد