صدر للدكتور محمد جبرون مؤخرا كتاب ” تاريخ المغرب المعاصر: من الحماية إلى وفاة الملك الحسن الثاني (1912- 1999) ، والذي يعتبر تتمة لكتاب آخر صدر في 2019بعنوان ” تاريخ المغرب الأقصى من الفتح إلى الاحتلال «. وقد اعتبر المؤلف كتاب من خلال مقدمة الكتاب ” تاريخ المغرب المعاصر …” مغامرة معرفية وثقافية محفوفة بكثير من المخاطر بالنظر لطموحه التركيبي …” الذي يهدف إلى ” خدمة تاريخنا الوطني …ونشر ثقافة تاريخية مسؤولة ومواطنة … ” وهكذا فإنه ” يقدم ىسردية شمولية ممتدة في الزمان من لحظة توقيع الحماية مع فرنسا سنة 1912إلى وفاة المرحوم الحسن الثاني 1999.” وقد اعتبر المؤلف هذه السردية التركيبية ” رأيا عاما تاريخيا ” نحن في الحاجة إليه ” عندما نلاحظ
الأغلاط الكبيرة التي يرتكبها بعض المواطنين والسياسيين، والجهل الفظيع الذي يعاني منه الكثير من أبنائنا …” على اعتبار ان الإحداثيات التاريخية ضرورية لتحديد الانتماء.
لقد حاول الأستاذ جبرون تحصين عمله منهجيا من خلال المقدمة على اعتبار أن ” كتابة التاريخ العام تختلف عن كتابة التواريخ الجزئية …ولا يمكن بحال من الأحوال تقييم هذا العمل في بعده المنهجي دون الأخذ بعين الاعتبار هذا الفرق الجوهري بصفته مكونا تربويا اتخذ الأستاذ جبرون ” طريقا بيداغوجيا “في تقديم محتويات الكتاب المر الذي يخدم الهداف المعلنة من تأليف الكتاب، حيث اعتمد تبويبا منهجيا دقيقا ومفصلا .
حيث قسم الكتاب الذي يقع في 543 صفحة إلى مقدمة عامة وبابين وثمانية فصول حيث وضع لكل فصل مقدمة وخاتمة، ثم خاتمة عامة للكتاب.الباب الأول: المغرب في عهد الحماية (1912 – 1956)
الفصل الأول: دولة الحماية 1912 – 1955
الفصل الثاني: المقاومة المسلحة 1912 – 1934
الفصل الثالث: الحركة الوطنية من النشأة إلى نفي الملك محمد الخامس
الفصل الرابع: ثورة الملك والشعب حتى الاستقلال
الفصل الخامس: الاقتصاد والمجتمع والثقافة في مغرب الحماية
الباب الثاني: المغرب المستقل (1956– 1999)
الفصل السادس: المغرب بُعيد الاستقلال: تحديات بناء الدولة الوطنية في عهد الملك محمد الخامس
الفصل السابع: المغرب في عهد الحسن الثاني
الفصل الثامن: الاقتصاد والثقافة والمجتمع في المغرب المستقل
إن ما يميز الكتاب هو جرأته وجسارته على اقتحام دراسة فترة تاريخية كلها ألغام وهي فترة ما بعد الاستقلال (1956 – 1999) بكل صراعاتها واحداثها الصاخبة والمتسارعة والتي شكلت إلى حد بعيد المغرب الذي نعيشه، هذه الفترة التي يمكن ان ندخلها ضمن التاريخ الراهن للمغرب بكل ما تحمله من إشكاليات منهجية تتعلق المدة الزمنية التي تفصل المؤرخ عن الأحداث والوقائع، ثم مسألة فك الارتباط بين السياسة والتاريخ خصوصا وان هذه المرحلة تميزت بالصراع الكبير حول السلطة عند الانتقال من الحماية إلى الاستقلال. والواقع ان الأستاذ جبرون قد وفق في تناول هذه الحقبة الراهنة دون الوقوع في مطباتها.
وعند قراءة الكتاب أثار انتباهي وقوع الكاتب في عدة هفوات إن لم اقل أغلاط تدل على أنه لم يعتمد على ما يكفي من المصادر و المراجع للتأكد من تاريخ أو حقيقة بعض الأحداث و الوقائع وقد أشار إلى ذلك في المقدمة عندما كتب :” لم نكن بحاجة إلى الإحاطة بكل المصادر المتعلقة بحدث معين لنثبت وقوعه ، وهو المشهور والمعروف في عموميته لدى الخاص والعام من المؤرخين “[1]، وسنأخذ بعض الأمثلة على هذه الأخطاء التي تتعلق بأحداث معروفة في عموميتها :
- ورد في الصفحة 14ما يلي : ” يطلق لفظ الحماية … على المعاهدة التي وقعها عن الجانب المغربي السلطان المولى عبد الحفيظ و عن الجانب الفرنسي عبد القادر بن غربيط في 30 مارس 1912″. أتساءل كيف وقع الأستاذ جبرون في هذا الخطأ البين عندما جعل بن غربيط موقعا على عقد الحماية و المعلوم عند الجميع ان من وقع بجانب السلطان هوEugène Regnault ) رينيو وليس رونو كما ترجمه الكاتب ) وزير فرنسا المفوض بطنجة ، أما قدور بن غربيط (و ليس عبد القادر كما جاء في الكتاب ) فهو من ترجم نص المعاهدة من الفرنسية إلى العربية ، و توقيعه على النسخة العربية يشهد بصحة الترجمة فقط .[2] و الواقع أن المنطق التاريخي و الديبلوماسي لا يقبل أن يوقع على معاهدة بهذا الحجم شخص لا ينتمي إلى الجهاز الديبلوماسي للدولة الفرنسية ، صحيح أن قدور بن غربيط لعب دورا كبيرا في توقيع الحماية باعتبار موقعه كمترجم بالمفوضية الفرنسية و استغلاله من طرف فرنسا للضغط على السلطان عبد الحفيظ . [3]
- عند حديثه عن الاحتلال العسكري للمغرب (ص20)وضع الأستاذ جبرون عنوانا كبيرا هو ” الاحتلال العسكري للمملكة المغربية (1907 – 1934)” هذا العنوان ليس دقيقا على مستويين :
- المستوى الأول هو أن المغرب لم يكن يسمى آنذاك بالمملكة المغربية، بل كان يعرف ب “المملكة الشريفة” او “الإمبراطورية الشريفة «، و هذا ما يطرح مسألة وضع المفاهيم والمصطلحات في سياقها التاريخي.
- المستوى الثاني يتعلق بالتحديد التاريخي لحدث الاحتلال حيث يشمل الفترة ما بين 1907 و1934، والواقع أن عمليات الاحتلال قبل 1912 أي ما بين 1907 و1911، تدخل ضمن سياق تاريخي مختلف، نعني به الصراع بين فرنسا و منافسيها حول المغرب حيث عملت على وضع منافسيها أما الأمر الواقع بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء، و نفس الشيء بالنسبة لإسبانيا. في حيت يدخل الاحتلال منذ ما بعد توقيع معاهدة الحماية في إطار تنفيذ البند الثاني منها. و تنطبق نفس الملاحظة على أحداث مقاومة الشاوية .
- و نلاحظ كذلك أن الأستاذ جبرون عمد إلى وضع ترجمة إنجليزية لبض المفاهيم التي لها علاقة بالمرحلة و نخص بالذكر: ” الكوم “(The goums) و كان من الأجدر وضع المصطلح الأصلي بالفرنسية على اعتبار أن المصطلح فرنسي( les goumiers) ،نفس الأمر بالنسبة لمفهومي ” المغرب النافع ” «Le Maroc útil «و” المغرب غير النافع ” ” Le Maroc inútil “، اللذين وضع لهما أيضا ترجمة إنجليزية .
- وضع المؤلف المحور الثالث من الفصل الأول عنوانا موسوما ب ” دولة الحماية “، و لا ندري ما ذا يعني بهذا المفهوم . لم يكن هناك أبدا مفهوم أو مؤسسة بهذا الاسم ، وهكذا و من خلال مضمون الفقرة كان من الأجدر أن يتكلم عن نظام أو جهاز الحماية عوض “دولة الحماية “كما يوصف في مختلف الكتابات المغربية أو الفرنسية . في نفس الفقرة و في الصفحة 38 يقول : ” ويمارس السلطان المهام الموكولة له …من خلال ظهائر أو من خلال نوابه ( الوزراء ، والولاة ، القواد )و الواقع أنه لم يكن هناك ولاة بالمغرب آنذاك ، كان هناك القواد والباشاوات .كما أنه يتكلم عن “محمد الخامس ” قبل الاستقلال و الواقع أنه كان يسمى رسميا ” السلطان محمد بن يوسف ” و هنا تطرح مسألة احترام السياقات ، التي تكررت كثيرا مثل الحديث عن” ولي العهد الحسن الثاني “عند التطرقعن حضوره عرض مسرحية العصفور عند زيارته لمدينة طنجة سنة 1947 رفقة والده محمد بن يوسف ، لكن الأمير مولاي الحسن لم يكن قد عين وليا للعهد بعد ، ( أصبح وليا للعهد سنة 1957 بمناسبة عيد ميلاده ) كما أن صفة الحسن الثاني لم تطلق عليه إلا بعدما أصبح ملكا .
- من مميزات الكتاب تعرضه لمقاومة قبائل جبالة، وللدور الذي قامت به مدينة طنجة الدولية في النضال من أجل الاستقلال، لكن الأستاذ جبرون عند تعرضه للأحداث الدامية التي عرفتها المدينة بمناسبة الذكرى 40 لتوقيع معاهدة فاس وقع في خطأ تحديد سنة هذه الأحداث حيث أرخ لها ب 30 مارس 1951، (ص 191 و الصورة ص 188) والواقع أن هذا اليوم الدامي كان سنة 1952.
- خصص المؤلف الفصل الرابع لثورة الملك و الشعب حتى الاستقلال ، و عنون المحور الأول ب” العودة للسلاح : من الحركة الوطنية إلى حركة المقاومة ( الحركة الفدائية ) ، إن صيغة العنوان توحي بان هناك قطيعة بين الحركة الوطنية و الحركة الفدائية ، غير أن ما حصل هو ان الحركة الوطنية استمرت لكنها أضافت إلى النضال السياسي ، كفاحا مسلحا نتيجة للمؤامرة 20 غشت ،و ما حركة الفداء ثم إنشاء جيش التحرير إلا مظهرين من مظاهر الكفاح المسلح في إطار الحركة الوطنية التي أصبحت تزاوج بين النضال السياسي و الكفاح المسلح .
- في الفقرة الثالثة من الفصل الرابع تطرق الكاتب لما وسمه ب”طريق الاستقلال” حيث تحدث بإسهاب عن مفهوم interdépendance الذي شكل إطارا للتفاوض حول استقلال المغرب منذ لقاءات إكس ليبان ، إلى توقيع الاتفاقية المغربية الفرنسية حول إلغاء الحماية واستقلال المغرب ، 2 مارس 1956التي تضمنت هذا المفهوم ، لكن ما يثير الانتباه هو الترجمة التي وضعها الأستاذ جبرون له، ” الاستقلال المتداخل ” و هي ترجمة غير صحيحة ، فالكلمة الفرنسية مركبة من شقين : intr و تعني بالعربية فيما بين ، وdépendance تعني اعتماد أو تبعية أو ارتباط حسب السياق و بالتالي فالترجمة الصحيحة لهذا المفهوم هي ” الترابط ” ، أما ” الاستقلال المتداخل ” فهي ترجمة حرفية لكلمة ” intérindépendance ” وقد تم التنصيص على مفهوم الترابط في وثيقة إلغاء الحماية والاعتراف باستقلال المغرب الموقعة بين المغرب وفرنسا في 2 مارس 1956 ، الأمر الذي لم ينص عليه الاتفاق المغربي الإسباني حول إلغاء الحماية على شمال المغرب .و بالتالي فالاتفاق المغربي الإسباني ليس شبيها بنظيره المغربي الفرنسي كما أورد المؤلف .[4]
- يتناول الفصل الخامس ” الاقتصاد والمجتمع و الثقافة في مغرب الحماية ” ، حيث تطرق المؤلف في الفقرة الثانية من المحور الثاني(ص286)ل” تطور البنية الاجتماعية : ظهور عناصر سكانية جديدة ، والهجرة اليهودية من المغرب .حيث يبين الهجرة الأوربية للمغرب مقابل هجرة اليهود له ، الملاحظ هو أن هذا الأمر لا يتعلق بالبنية الاجتماعية بل بالتركيبة السكانية ، لأن البنية الاجتماعية مفهوم اجتماعي وليس ديمغرافي و يعني :” مجموعة منظمة من المؤسسات الاجتماعية وأنماط العلاقات المؤسسية التي تشكل المجتمع”.[5]وهكذا فإن العنوان الملائم للفقرة هو “تطور التركيبة السكانية “. و نفس الملاحظة يمكن تسليطها على عنوان المحور الثاني من الفصل الثامن ، “الدينامية الاجتماعية و المجالية : الكثافة و التمدين و الهجرة القروية ” (ص480)، حيث ينبغي استبدال ” الدينامية الاجتماعية ” ب ” الدينامية السكانية أو الديمغرافية ” لأن الكثافة و التمدين والهجرة القروية مفاهيم ديموغرافية .
- على المستوى المنهجي صرح المؤلف في المقدمة انه ” يقدم ىسردية شمولية ممتدة في الزمان من لحظة توقيع الحماية مع فرنسا سنة 1912إلى وفاة المرحوم الحسن الثاني 1999.” و السردية التاريخية كما عرفها المؤرخ الأمريكي ” لورنس ستون ” هي “تنظيم المادة (التاريخية)تنظيما متتابعا من حيث التسلسل الزمني و تركيز المضمون في قصة متجانسة و قائمة على الوصف اكثر من قيامها على التحليل إنها تهتم بالناس و ليس بالظروف المجردة ،وهي تعالج الخاص و المحدد أكثر من معالجتها للجماعي والإحصائي ” .[6] اعتمادا على هذا التعريف و على ما صرح به المؤلف “باعتماد تبويب منهجي دقيق و مفصل … يعتمد تقنيات السرد الحكائي …و باعتماد الصور كفواصل و محطات استراحة تكسر الملل الذي قد ينشأ عن القراءة …” ( الملاحظ هو ان المؤلف لم يشر إلى مصادر الصور ) ، فإنه قد وفق في ذلك مع الإشارة إلى أن طبيعة المرحلة المدروسة تطلبت منه مجهودا معتبرا على اعتبار تناول الأحداث على مستويين : تعاقبي و تزامني بحكم التقسيم الذي كان يعرفه المغرب إلى ثلاث مناطق : سلطانية وخليفية ومندوبية . لكنه عموما لم يحترم هذه المنهجية في الفصلين الخامس و الثامن عند حديثه عن الاقتصاد والمجتمع و الثقافة ، حيث لم يلتزم بمنهجية السردية التاريخية لأن طبيعة المواضيع المتناولة تفرض ذلك ، حيث الاعتماد على الإحصائيات و الجداول الكمية ، الأمر الذي كان عليه أن يشير إليه عند تحديد المنهجية المعتمدة في الكتاب .
إن الملاحظات السالفة الذكر لا تقلل من أهمية الكتاب خصوصا و أن الأستاذ جبرون حدد لمؤلفه هدافا ساميا هو المساهمة في صناعة “رأي عام تاريخي “و تصحيح الأغلاط الكبيرة التي يرتكبها بعض المواطنين والسياسيين و الجهل الفظيع الذي يعاني منه الكثير من أبنائنا الذي يؤدي بهم في كثير من الأحيان إلى الاستخفاف بثوابتنا الوطنية والتهاون في الدفاع عنها …”( مقدمة الكتاب ص6). كما ان الأستاذ جبرون لم ينزع جبة المفكر وهو يكتب التاريخ خصوصا في خاتمة الكتاب عندما تطرق “للانتقال الشاق من التقليد إلى الحداثة “.
وأختم هذه القراءة بما ختم به الأستاذ جبرون مقدمة كتابه حيث يعتبر هذا ” النص بإيجابياته و نواقصه هو خطوة معتبرة في سياق إعادة الاعتبار للثقافة التاريخية ،و تجديد معنى الوطنية و ترسيخ الإيمان بثوابتها ”
[1] مقدمة الكتاب : ص 8
[2] مجلة المناهل : العدد 87 . وزارة الثقافة المغربية ، ص 330
[3] ذ عبد الرحمن القباج : في ذكرى توقيع العقد المشؤوم / قدور بن غربيط الترجمتان الغريب .ملفات من تاريخ المغرب , العدد 10 أبريل 1997 ص 11
[4] انظر نصي الاتفاقين باللغة الفرنسية على الرابط التالي : https://mjp.univ-perp.fr/constit/ma1956.htm
[5] https://www.greelane.com/fr/science-technologie-math%C3%A9matiques/sciences-sociales/social-structure-defined-3026594/
[6] ورد في : قيس ماضي فرو : المعرفة التاريخية في الغرب ، مقاربات فلسفية وعلمية وادبية ” / المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات .ص 236. ط 1/ 2013
محمد الغريش
أستاذ مادة الاجتماعيات