16 ـ انتصار
***
ـ
قبل أن يضيق أو يؤكد شيئاً من تذمُّرِهِ بما ينتظره من ازدحام برنامج يومهم التالي، هو وصاحبته وابنته، هجس لنفسه، وهو في جلسة استراحة ، ملبياً نداء الطبيعة:
ـ فليكن. فلن يحل بنا أسوأ مما عشناه، أو فوق ما نطيق حتى…
لكن صوتا من داخله قاطعه:
ـ حتى ولو لم نبلغ المقصود إلا بدق أعناقنا في حادثة في ميدان حرب الطرقات
فارتاع لذلك ، لكن صوتاً أكد له في هدوء شيه محايد:
ـ بها ننجو من كل هذا الضيق النفسي الخانق.
فأحس براحة تخترقه كأنها نَصْلٌ باردٌ، فَقَـدَ بَعْدَها وَعْيَهُ.دون أن يكون هناك صوتٌ ، في الداخل أو الخارج، ليتساءل:
ـ إلى أين انتقل الرجل؟
كان قد نام في دعة ، منطوياً على شعور بالانتصار على ما كان يُهدِّدُهُ من اقتراب أجلَهِ ِقبل أيِّ سَفَر ، قريبٍ او بعيدٍ.
“وِيسْت”17 ـ
***
تأملها في عرجها ، وفكر: أهذه التي كانت تسير يوماً برشاقة تثير إعجاب الناظرين؟
فأين يمكن أن تكون قد بُترت ساقُها، وكيف؟ هي الآن بطيئة السير إلى درجة تدعو إلى العطف، وأراها تعذبت ولا ريب، أثناء الحادثة، علا صراخها الذي روّع كل من سمعه بالفعل، إن كان ذلك قد حدث في ناحية مأهولة، جهة ما من هذه المدينة ربما.
وإني لأذكر أنه كان في حينا زمن طفولتي رجل طيب بترت ساقه ، لكن ذلك كان في حرب سيق إليها مخدوعاً، مكذوباً عليه أنه سيحارب الكفار في بلد مجاور أختلق قادة إحدى الفئتين المتقاتلتين في حرب أهلية، شبت فيه أكاذيب لوَّنت بها إدعاءاتها الباطلة، لدفع من ساقتهم إليها بدون أن يكونوا طرفاً فيما يتقاتل حوله أبناء البلد المجاور، كان كل الناس يسمونه ” الكوخو”. كأنهم كانوا يتشفون منه ، رغم ما عرف عنه بينهم ـ بعد استقراره بين ظهرانيهم ـ من طيبوبة.
لكن هذه التي تسعى أمامي بعاهتها ليست ممن يشارك في حربٍ مهما كانت ،داخلية أم خارجية ، ولا حتى في ما ينشب من خلافات عارضة بين الناس في أي زمان أو مكان، ولقد تأثّرتْ لنسبة العجز الكبيرة التي ظهرت عليها بسببها فقدها ساقها اليمنى، ومع ذلك فقد عجزت عن اتخاذ وسيلة ما تعوضها عما ضاع منها ، هي بقيت تسير معتمدة على ما بقي من ركبتها المقطوعة، حتى وهي تختفي تحت سيارة مركونة على مقربة مني ، تسرع و كأنها تخجل من عرض عاهتها أمام عيني أنا، أو على أعين غيري ممن يرونها فيسخرون ولا يشفقون، فهي ككثيرات من بني جنسها ، لم تكن محظوظة ، لتنعم بالدفء بين ذراعين تعانقانها ، أو تظفر برعاية مسعفٍ يجود عليها، يبدو أن المسكينة ليست أكثر من متسكعة متشردة، وقد تكون سيارة عابرة بجنون فاجأتها وهي تعبر الطريق فذهبت بساقها ذات لحظة مشؤومة.
تألمت وأنا أذكر أغنية كنافي مدرستنا الأولى قد قرأناها، قبل أن نسمع فرقة موسيقية وطنية تغنيها:
ـ “…تجري بمهارة ، كي تصيد… ”
وتذكرت كيف أن صغرى بناتي كانت قد أحبت من سمَّتْها “ويست” التي وكانت تحبها وتعطف عليها ، لكنها ضاقت بها حين رأتها تفترس حمامة ، بكتْ ابنتي ، ثم دعتنا إلى التخلص منها على الفور.
أحمد بنميمون