29 – الشيخ
تمنى الشيخ وهو يضع على لسانه قطعة تفاح ـ استعمل في قطعها سكيناُ صغيرة بعد ذهاب أسنانه، وقد استبدل بها طاقم أسنان ـ أن لو كان يستطيع أن يعثر هنا أو هناك ، في إحدى زوايا مدينته على ذلك الطفل الذي كثيرا ما كان يتمنى كلما جاع أن يجد من يطعمه تفاحاً وموزاً وفواكه أخرى ، يسمع عنها دون أن يكون قد رآها ، بل إن الشيخ يذكر أن أحد معلمي ذلك الطفل كان ارتج عليه ذات يوم، أمام عيون أطفال تملأها الصور والأحلام والأمنيات الطائرة، وهو يتوقف أمام اسم إحدى الفواكه لم يكن له هو نفسه بها عهد ، وعليه الآن أن يعيٍّن لهم نوعها وشكلها، فلم يجد أمام انفتاح أفواه فاغرة كانت تتحلب في شهية متأججة، وتتلمظ بلسان ظاميء ، إلَّا أنْ يصرخ:
ـ آه الكمَّثْرَى ، هي …هي نوع من الموز حلوٌ ولذيذٌ.
وكان الموز أيضاً في ذلك الزمن البعيد، في تلك المدينة البعيدة الغارقة في ضباب ماضيها الجائع حلماً مستحيلاُ أيضاً. وفي غور سحيق من نفس الشيخ كان صوت يأتي، لا يكاد يسمع ، ولو أنه كان يصرخ
ـ أين يا ترى يمكن أن نجد المفتاح المفقود
ــــــــــــــــــــــــــــ
30 – المجنون
حينما يُجَنُّ شاب في مدينتنا الصغيرة قلما كان الناس يحتارون في إيجاد سبب جنونه، فحلم كل شاب أن ينتهي إلى العثورعلى امرأة، فإذا تعذر ذلك وطالت انتظاره، فإن قواميس سخرية الناس تضج بالألقاب والصفات التي يصمونه بها إلى أن يغير من أحواله فيقترن ، أحب أم كره، وحمدون لم يكن بالشاب العاجز، بل إنه كان واسع الثراء ، ممن يزاحم الكبار على الماخور ، فيستأثر بمن يريدها من عاهراته الجميلات، اللواتي كان يتم سحبهن من أوساط عائلاتهن في ذلك الزمن ، إذا همّ وقعن في محذور يوجب تسليمهم إلى سلطات الماخور، من علاقات كانت ممنوعاً على المرأة بيننا من كل الفئات. ولذلك سهل على الناس ردَّ جنون حمدون إلى ما فعلته به إحدى غانيات زمانه، وظل زمانا غير يسير ، يمشي على وجهه تائهاً بلا دليل عقل، أو مرشد واعٍ يضيء له الطريق، إلى أن وجده بعد زمان طويل من جنونه ، أحد مَن صحبه في شبيبته، أيام كان يفيض حيوية وزهواً، بقدرات الفتوة والشباب. إنه الآن يبحث عن الماخور في حي بعيد عن مكانه الذي كان فيه أول الأمر، ظاهر الاضطراب ، في إحدى يديه بعض أوراق مالية،وكأنه لا ينقصه إلا العثور على مكان عاهراته الجميلات، حين رأى صديقه القديم يسأله:
ـ ماذا تريد في هذه الناحية النائية عن حيك يا أحمد؟
قال المجنون دون أن يتلكأ أو حتى أن يخفض من صوته:
ـ لقد بحثتُ طويلاً عن البورديل ، فلم أجدْهُ
والمجنون استعمل أوضح الأسماء دون تردد ، وهي يسعى بسرعة إلى ما يريد.
تأسف صاحبه، وهو يدرك بالملوس أن لا تفسير لجنون حمدون إلا ما يكون قد أصاب ساعته البيلوجية من توقف، فقد اختل إدراكُه لزمنه، فصاح به:
ـ يا خاي أحمد ، إن زمان الماخور ذي الشارع الواحد قد انتهى منذ عشرين عاماُ، لكن لا بأس، إذا أردته اليوم فإنك تجدُه اليوم في كل شارع أو مكان تصله، وفي أي حيٍّ كنتَ.
وصار صديق شبيبة المجنون يبتعد عنه، وينأى، دون أن يهتم بما كان رد فعله.
لكن قبل أن ينسى ما كان من شأنه مع المجنون، كان صوت آخر بعيد يملأ عليه مجامع نفسه، محاولاً أن ينبسَ ، أو يردد بصوت مسموع:
ـ لو كان معي المفتاح …. لوكان معي المتفاح: لقضيْتُ على كل جوع.
أجمد بنميمون