من الجدير بالملاحظة أنَّ الشَّاعر القاصَّ أحمد بنميمون ، سواء في مجموعته القصصية الأولى ” حكايات ريف الأندلس ” أو في مجموعته الثانية ” شهود الساحة ” ينحاز في العديد من قصصه إلى فئة الذين يعانون القهر والحرمان والتهميش في مجتمعنا. فهم شبيهون ” بالأبطال المطحونين الذين يزخر بهم إنتاج غوغول وترجنيف وموباسان وتشخوف .. ” ( [1] ) ، كما يزخر بأمثالهم الإنتاج القصصي المغربي المعاصر ، نذكر منه على سبيل التمثيل لا الحصر قصص محمد إبراهيم بوعلو وعبدالجبار السحيمي ومحمد زفزاف ومحمد بيدي وربيع مبارك وغيرِهم ممن أصبحتْ أعمالُهم القصَصِية مرآة للحياةِ المُجتمعية في خِصْبها وتعقدها. ([2] )
وقد جعلنا الكاتب نتعاطف مع أبطال قصصه وشخصياتها من هؤلاء المقهورين والمحرومين والمهمشين.
ولا تخرج قصة ” الحَصاد الشائك ” التي كتبها مؤخراً عن هذا التوجه. وسيجد القارئ نفسه مسوقاً إلى التعاطف مع سكان ” حومة الشوك ” بصفة عامة ، ومع الشخصية الرئيسة ” جنان ” العاملة “برمانةً ” في إحدى الحانات بصفة خاصة .
دلالة العنوان :
أول ما يصادف القارئ في هذا النص القصَصي ، عتبةُ العِنوان : ” الحصاد الشائك ” القائم على ” العنونة الوصْفية المعرَّفة ” ( [3] ) ، فهو يتركبُ من اسم معرفة ( الحصاد ) وصفتِه ( الشائك ). إنَّه يثيرُ انتباهَ القارئ إلى أنه بصددِ الولوجِ إلى عالمٍ قصصي يكتنفُه التناقضُ والغرابة ، وتسوده ألوان من المعاناة والآلام. فلفظ الحصاد يوحي بموسم الخصوبة وجني الغلال التي ينعم بها الناس، ولكن لفظ الشائك صفة مناقضة لهذه الدلالة. ذلك أن عالم القصة ، عالم لا يحصد فيه الإنسان إلا غلال المعاناة والآلام والغربة وجراح الجسد والروح. ونجد في المتن القصصي ما يؤكد هذه الدلالة ، نمثل له بما يلي :
ـ ” في حومة الشوك ، للجراح مذاق يومي ” ـ ” بناءُ حي غريب على الشَّوك ” ـ ” في إثرهم كانت سياط تهرول أحياناً بأسرع مما يهرولون. ” ـ ” حلم اللجوء إلى جوار بحر قد يهيئ لهجرة أبعد ” ـ ” هي تقف الآن حيث تلبي كل ما يطلب منها ، حتى ولو كان شديد الوخز ، لكنها وقد انحدرت من الشوك ، فقد تعودت جلدتها على قسوة الطعن .”
المتن القصصي :
تتألف القصة من سبع لوحات :
اللوحة الأولى : يصور فيها السارد ـ الشاهد ” حومة الشوك ” التي تقع في مرتفع يقطع الأنفاس لبلوغه ، فهي موطن البؤس والفقر وشظف العيش ، ولكنها رغم ذلك مرتع الذكريات لمن هاجرها بعيداً عن أحضان الأهل فيها.
اللوحة الثانية : نتلقى هذه اللوحة من خلال زاوية نظر ” جنان ” ، واللوحة تروي كيف تم بناء حي الشوك الغريب ، رغم مضايقة السلطات وملاحقتها من يريد أن يجد له مقراً حتى في حضن الشوك ، فيستقر بهذا الحضن بعض ” المحظوظين ” من اللاجئين إليه ، ولا يبقى لمن لم يتسن له الاستقرار في أحشائه إلا حلم ركوب البحر إلى الضفة .
اللوحة الثالثة : يتم فيها التركيز على تصوير الفتاة الجميلة “جنان ” وهي تعمل في البار ، تقدم لزبائنه المتحكمين ما يطيب لهم من شراب ، ونفسها تتقد حقداً على الشاربين ، وتمتلئ إحساساً بمرارة الذل والمهانة.
اللوحة الرابعة : محاورة بين ” جنان ” والسارد ـ المشارك الذي يبدو متعاطفاً معها . تقول له هامسةً : أنا من الشوك ، فيجيبها مواسياً : ” جُنَّةُ الوردٍ شوكُه “. فترد معبرة عن تبرمها بواقعها : ” ما أضيق هذه الحياة على كل من ولد أو كبر في حومة الشوك. ” ثم تردف معلنة عن أملها في إيجاد حياة أفضل : ” ألا ليتني أعرف طريقاً تسير بي إلى حيث أرى غصن ورد مورقاً ، أو حتى قبل أن يورق. ”
اللوحة الخامسة : تقدم لنا حواراً داخلياً لجنان ، مشحوناً بالأسئلة المعبرة عن معاناتها وحيرتها إزاء ما يقع أمامها من أحداث ووقائع غير قابلة للفهم والتفسير ، تعكس وجه الواقع الظاهر على السطح المليء بالمساحيق الخادعة التي تخفي خلفها الحقيقة المريرة الفاجعة لأغوار الواقع الذي تمثله ” حومة الشوك “.
اللوحة السادسة : يرصد فيها السارد الوضع الاجتماعي البائس الذي اضطر ” جنان ” الجميلة الناعمة الجلد إلى العمل المهين في البار الأمريكي الذي لم يشفع لها العمل فيه إلا جمالها ونعومة جلدها.
اللوحة السابعة : في هذه اللوحة الأخيرة من القصة يكشف لنا السارد عن البعد الإنساني في شخصية ” جنان ” التي رضيت بالعمل في مكان تمتهن فيه كرامتها ، وذلك من أجل إعالة أمها وإخوتها الصغار .
الفضاء القصصي :
من خلال اللوحات التي تعرضها قصة ” الحصاد الشائك ” ، يتبدى لنا فضاءان أساسيان :
أ ـ فضاء ” حومة الشوك ” ، وهو فضاء المعاناة والعذاب والفقر والحرمان . ولا يخفى أنه يلمح إلى أفضية مماثلة تنتشر في محيط العديد من المدن المغربية.
ب ـ فضاء البار الذي تعمل فيه ” جنان ” تحت وطأة الحاجة والفقر ، ولا يخفى أيضاً أنه يشير إلى أفضية مماثلة ، يستغل فيها جهد الإنسان ، وتنتهك حقوقه المادية والمعنوية.
وكلا الفضاءين جارح ـ كالشوك ـ كرامةَ الكائن البشري ، وسالب بكل قسوة قيمتَه الإنسانية.
تعدد الضمائر وتعدد الرواة :
الملاحظة أن القصة تسرد من خلال عدة ضمائر :
ـ ضمير المتكلم : ” بعد باب المحروق أمضي مباشرة إلى حومة الشوك ” والضمير يعود على السارد ـ الشاهد . ( اللوحة الأولى )
ـ ضمير الغائب ـ المؤنث : ” كانت ترى دائماً الشوكيين حين ينزلون من مرتفعات حومتهم ، وهم يتوزعون في طلب الرزق .. ” ، والضمير هنا يعود على ” جنان “. ( اللوحة الثانية )
ـ ضمير المخاطب : ” تُشرف من أعالي الحي فلا ترى إلا الغبار والزحام وأشتاتاً من الناس … ” والخطاب موجه إلى المتلقي الذي يستقبل عملية الحكي . ( اللوحة الخامسة )
ومن خلال هذه الضمائر نلاحظ أن القصة تسرد من قبل عدة رواة : السارد ـ الشاهد على الأحداث ـ السارد ـ المشارك ـ السارد ـ الشخصية التي نتلقى الأحداث من زاوية نظرها.
رمزية الاسم :
ومما تجدر ملاحظته كذلك ، أن الكاتب لم يختر اسم بطلته بشكل اعتباطي ، بل وظفه توظيفاً فنياً له دلالته في سياق النص . فـ”جٍنان “ تحيل إلى البساتين المليئة بالأشجار والثمار والأزهار والرياحين في حين أنها ابنة حومة الشوك تقول ” أنا من الشوك ”
إنها مفارقة لفظية ـ سخرية ( ironie ) ، فشتان بين دلالة الاسم وواقع صاحبته ،
بقي أن نقول في ختام هذه القراءة لقصة “الحصاد الشائك ” لأحمد بنميمون ، إنها طرحت قضايا ومشكلات اجتماعية ما زال يعاني منها المجتمع المغربي ، بكثير من الصدق والوضوح والواقعية.
هوامش :
* من مجموعة ” حومة الشوك ” ، ط.1 ، نشر وطبع سليكي أخوين ، طنجة ، 2015 ، ص : 3 .
[1] ـ أحمد اليبوري ، تطور القصة في المغرب / مرحلة التأسيس ، ط. 1 ، منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ ابن مسيك ، الدار البيضاء ، 2005 ، ص : 115.
[2] ـ نفسه ، ص : 115 .
[3] ـ انظر : بلاغة العنونة القصصية ، دراسة في القصة الأردنية ، جميلة عبدالله العبيدي ، مجلة أفكار ، عدد : 279 ، أبريل ، 2012 ، ص : 15 .
د. عبدالجبار العلمي