إذا كان المشهد الشعري العربي يعرف راهناً تراكماً كمياً ملحوظاً مشرقاً ومغرباً، فإنه على المستوى الكيفي يعاني في الغالب الأعم من هزال وضعف وفقر من حيث اللغة والبناء والدلالة، لاسيما بعد أن اقتحم بعض المتأدبين معبد الشعر، بدون التزود الكافي بأدوات الشعر، وبدون الرجوع إلى منابع التراث الشعري العربي، ينهلون منه ويتخذونه مرجعية أساسية يتكئون عليها في مُمارَسَتهم الكتابية. فقد ضربَ أكثرهم عرض الحائط بالتراث الشعري العربي، ووقفوا منه موقف الرفض والقطيعة، وفي المقابل انبهروا ببريق الحداثة الشعرية، التي تدعو إلى التخلص من كل ما اعتبروه قيودا في الموروث الشعري. وهكذا تم الاتجاه إلى كتابة ما يسمى بـ «قصيدة النثر» باعتبارها مطية ذلولاً، كما يَحسَبون، يَبثون من خلالها خواطرَهم من جهة، وباعتبارها من جهة أخرى تمثل حركة «الحداثة» الشعرية، التي انبثقت من الشعرية الغربية (خاصة كتاب «قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن» لسوزان برنار، ترجمة راوية صادق، تقديم رفعت سلام 1998)، وهي التي تبنتها جماعة مجلة «شعر» وعلى رأسها يوسف الخال وأنسي الحاج وأدونيس، منظر الحداثة الشعرية العربية. ويُجمِعُ معظمُ النُّقاَّد والشُّعراء المعاصرين على «أن الحداثة العربية ينبغي أن تنبع من الجذور العربية نفسها، ولا يمكن أن تكون صدى لسواها، ولا يمكن أن يكون هناك انقطاع مع الماضي أبداً». (فاضل جهاد، «أسئلة الشعر»). انحاز شعراء المرحلة الراهنة إذن إلى صرعة الحداثة هاته بدون أن يتزود معظمهم بمرجعية ثقافية وفنية كافية؛ فجاء منجزهم الشعري في معظمه يعاني من الضعف، سواء على مستوى المعجم أو التركيب أو الإيقاع أو الدلالة، ولم يعد أحد قادراً على اجتذاب الجمهور إليه. فقد انكفأ على الذات وتلهى بعملية الهدم والتقويض والتجريب وتفجير اللغة، فنتجت عن ذلك كتابة تقوم على الإبهام لا الغموض الموحي.
إن أمر تطويع اللغة وتجديدها أمر مطلوب، من شأنه أن يغني لغتنا العربية الجميلة، لكن على من يقوم بهذه المهمة النبيلة، أن يتوفر على تكوين لغوي يمكنه من تحقيق ذلك. ويتحدث يحيى حقي في كتابه «أنشودة البساطة» عن ظاهرة الفقر اللغوي، التي كان يلاحظها لدى تلاميذه ومريديه من ناشئة الأدب في عهده. لقد كان يحيى حقي مخلصاً وصادقاً مع تلاميذه، يواجههم بكلمة الحق في ما يكتبون وما ينشرون بدون مجاملة كاذبة. وكان يشجع الموهوبين منهم، وينشر أعمالهم في مجلة «المجلة». وما أحوج جيلنا الجديد من الذين يقتحمون مجال الكتابة والإبداع، إلى من يوجههم بإخلاص، ويضع يدهم على مواطن الضعف والقصور في ما يكتبون، بدون محاباة أو مجاملة. ويرجع حسن طلب السبب الأساسي في هذا الضعف والقصور إلى أزمة النقد، التي يعيشها المشهد الأدبي العربي في مصر، في رسالته إلى الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي بعد فراغه من قراءة مقالاته حول قصيدة النثر في جريدة «الأهرام»، قبل أن تطبع في كتاب مجلة «دبي الثقافية» سنة 2008 .
يقول حسن طلب في هذه الرسالة: «إننا نعيش أزمة في النقد هي السبب الأساسي في كثير من الاضطراب الذي بدأ يؤتي ثماره المرة الفجة على ساحة الإبداع عامة، والإبداع في الشعر خاصة». إن كل ما ذكرنا من إبهام وافتقار إلى الموسيقى وفقر لغوي وثقافي في المنجز الشعري المشار إليه أعلاه، وهو أمر يؤكده العديد من الشعراء والنقاد، جعل الناس ينفرون من تلقي الشعر، قراءة وسماعا في اللقاءات الشعرية المنظمة في كل الأقطار العربية. وقد بدأ هذا النفور منذ عقود عدة. ما زلنا نذكر قول جبرا إبراهيم جبرا في هذا الشأن: «كان الجواهري إذا كتب قصيدة، العراق كله يهتز. اليوم يكتب ألف واحد قصيدة، لا أحد يهتز. الشعر الحديث فقد الوقع الذي كان له وانسحب القارئ من ساحته لأنه هو انسحب من ساحة القارئ.» (أحمد المعداوي، أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث) ويقول أمجد الطرابلسي في نقده لقصائد العدد الماضي من مجلة «الأداب»: «ومن حسن الحظ، أن شعرنا الحديث ـ مع خروجه خروجاً تاماً عن قواعد النظم القديمة ـ ما يزال في معظمه متمسكاً بأهداب الوزن والتقفية، فلم ينجرف بعد في ذلك التيار الذي يسميه بعضهم بالشعر المنثور. أقول: من حسن الحظ، لأنني في هذا الباب (رجعي)، أقول برأي الناقد الفيلسوف بول سودي، ناقد فرنسي (1869 ـ 1929)» من أن «أجمل الشعر وأتمه كمالاً ما صيغ في أبيات شعرية، ولست أعني الأبيات الشعرية المصوغة في القوالب القديمة، ولكن أن يراعي الشاعر نمطاً معيناً من الوزن والتقفية يتجاوب مع انفعالاته وأفكاره». هذا ما قاله الدكتور أمجد الطرابلسي الشاعر العالم العارف بأهمية توفر الفن على قواعد لا بد منها مثل، الإيقاع الشعري في الشعر الذي من شأنه أن يحمل دلالات وانفعلات قد لا يستطيع الشاعر التعبير عنها إلا عن طريقه. ويُقر العديدُ من الشعراء المغاربة بظاهرة النفور من الشعر وتضاؤل تداوله في المشهد الشعري مغربياً وعربياً. يقول عبدالله راجع (أسئلة الحداثة) يقول بعبارات واضحة صريحة: «أنا شخصياً أرى شعراء كثيرين يكتبون قصائد النثر، ولكن أقلية قليلة منهم تستطيع إقناعي بأن ما تكتبه فعلاً يمكن أن ينتمي إلى ما أسميه شعراً. أنا لا أربط الشعر بالوزن، ولكن أرى أن هناك شعرية ينبغي أن تتحقق. هذه الشعرية أجدها داخل القصيدة و(القصيدة) التفعيلية، ولا أجدها في النماذج التي تسمح لنفسها بأن تسمى قصائد نثر»، بل إنه يذهب إلى أن أي تخط وتجاوز، ينبغي أن لا يتعدى حدوداً معينة… بشكل أدق، أقول إن هناك أصولاً ينبغي أن تقدس اللغة». يقول: فأنا مثلاً لا أستطيع أن أطمئن إطلاقاً إلى بيت شعري غير مركب تركيباً سليماً». ويؤكد الشاعر أحمد بنميمون في حوار أجراه معه الشاعر عبداللطيف الوراري، «إن معظم شعراء الحساسية الشعرية الذين برزوا بعد شعراء السبعينيات، الذين تبنوا ما يصرون على تسميته بـ»قصيدة النثر»… إنما لا يدركون أبعاد مغامرتهم الفنية، وإنما ـ أقولها بكل شجاعة ـ يكتبون لضعفٍ في معرفتهم الإيقاعية وثقافتهم اللغوية ووعيهم الشعري» ( «القدس العربي» 30 ديسمبر/كانون الأول 2018). إن أحمد بنميمون هنا يتبنى موقف علماء الشعر وأساتذته الذين أسلفنا الحديث عن بعضهم، وموقف الشعراء الذين مارسوه بكثير من المعاناة والمسؤولية أمثال، أحمد المجاطي ومحمد الخمار الكنوني ومحمد الميموني وعبدالكريم الطبال. أما الشاعر عبدالمعطي حجازي في كتابه الموسوم بــ»قصيدة النثر/ القصيدة الخرساء»، فيعتبِر بدوره أن انهيار المعرفة بلغتنا العربية الفصحى هي الكارثة الحقيقية في مختلف المجالات (الكتابة ـ التعليم ـ البحث ـ الإعلام .. ويرى أن المشكلة لا تنحصر في قصيدة النثر، وإنما هو تراجع شامل لا بد أن نبحث عن أسبابه». ومن الجدير بالملاحظة أن الشعراء الذين ذكرنا آراءهم يجمعون على ضرورة سلامة اللغة في الكلام الشعري، وكل من تحدث عن قصيدة النثر من الدارسين والباحثين والشعراء في كتابات أو حوارات، لم ينبذوا هذا الشكل الأدبي ولم ينكروه، بل اشترطوا توفره على مكونات أساسية في فن الشعر، هو الشِّعْرية اللازم توفرها في هذا الفـــــن الجميل.
وحتَّى عبدالمُعطي حِجازي الذي اتَّسمَ كتابُهُ ببعض الحدَّة التي فرضَها عليه واقعٌ أدبي آيل إلى الإسْفاف والتردِّي، كان موضوعياً في موقفه، صريحاً في آرائه، يقول كلمته ويمشي: «وأنا لا أنكر أن تجربة قصيدة النثر، أنتجتْ في بعض الأحيان نصوصاً جديرة بالقراءة، لكَّنها ورودٌ نادرةٌ في شوكٍ كثير، أو حبَّاتٌ ناضجةٌ في حِصرمٍ حامضٍ لا ينضج».
د. عبد الجبار التهامي العلمي