1/ تحديد مفهوم المحبة من المنظور الإسلامي:
المحبة أو الحبُّ لغة: تعني الوداد وشدة الميل أي نقيض البغْضِ. واللفظ من: حَبَّهُ يَحِبُّهُ وأَحَبَّهُ: فهو مُحِبٌّ وهو مَحْبوب ومُحَبٌّ. ومنه: الحِبُّ: بمعنى الحبيب والمحبوب. ويقال للأنثى: حِبَّةٌ وحبيبة. والجمع: أحْبابٌ وحِبَّانٌ وحُبوبٌ وحِبَبَةٌ… وقيل: من الحَباب، وهو غليان القلب وهيجانه للقاء المحبوب، مأخوذ من حَبَاب الماء: ما يعلو الماء عند المطر الشديد. وتَحَبَّبَ إليه: بمعنى تَوَدَّدَ.[1]
والمحبَّة اصطلاحا: أخذَتْ تعريفاتٍ كثيرةً شأنها شأن الأمور الواضحة الجلية البديهية، ويمكن إجمالها في الميل إِلَى الشَّيْء السار. قال الراغب الأصفهاني: «المحبَّة ميل النفس إلى ما تراه وتظنه خيرًا»[2]. وقال الهروي: «المحبَّة: تعلق القلب بين الهمة والأنس، فِي البَذْل وَالمنْع على الإِفْرَاد».[3]
أما من المنظور الإسلامي، فإنَّ الحبَّ أو المحبة التي يتبنّاها الإسلام هي المحبة بمفهومها الشامل الذي ينسحب على حب الإنسان لربِّه، وحبه لنفسه، ولوالديه، ولأولاده، ولزوجه، ولأخيه الإنسان. ذلك أن الإسلام دين المحبة والجمال والسكينة وما يجري مجرى هذه القيم النبيلة. فالإسلام على هذا رسالة حبّ ومحبة أرسلها الله لعباده عبر حبيبه المحبوب سيدنا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلوات وأزكى التسليم.
ولكن المحبة عند الخاصة من أهل الله مقام من مقامات الخصوصية. وقد ذهبوا في دلالات الكلمة وإشاراتها مذهبا متغلغلا حتى قرنوا بين الوَلَهِ – وهو أحد مراتب المحبة العالية – واسم الجلالة “الله” من حيث الاشتقاق لما يربط المُحِبَّ المُوَلَّهَ بمحبوبه الله من محبة عظيمة جعلت عقله يَأْلَهُ في عظمته.. لأنه الله. والمحبة عندهم شعور وسلوك؛ استأثرت بقلوبهم فاستحالت عشقا إلهيا يكتوي المحبون به، واستحالت عندهم أيضا عشقا محمديا تفيض به روحهم شوقا للحبيب المصطفى، فلا تهدأ أرواحهم إلا عند ذكره وكثرة الصلاة عليه وزيارته وخدمة آل بيته. وحبهم الجارف هذا أوقفهم في مقام العبودية الحقة لمحبوبهم الله، جل في علاه. ومن مظاهر صدق عبوديتهم الخالصة له سبحانه حبهم لبقية خلق الله، ديدنهم في ذلك أن الخلائق كلهم عيال الله. وحبهم من حب الله خالقهم، وتأدبِهم مع حبيب الله الرحمةِ المهداة سيدنا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلوات وأزكى التسليم.
2/ قيمة المحبة في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف:
المحبة من أعظم القيم النبيلة التي أنعم بها الله تعالى على عباده. محلها القلب، وتصدقها الأفعال قبل الأقوال. والمحبة عند العامة تقترن بحب الناس بعضهم بعضا فتأخذ بذلك أشكالا مما ذكرنا سابقا كحب الرجل للمرأة وعكسه، وحب الصديق لصديقه، وحب الجار لجاره، وحب الأقرباء لبعضهم البعض… وترتقي هذه المحبة عندهم لتشمل حب الله ورسوله كل على قدر إيمانه وصفاء قلبه.
ويزخر القرآن الكريم بذكر المحبة بمشتقاتها والتنويه بها والحث عليها في مواضع كثيرة، وسياقات متنوعة. ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ ۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ…﴾ البقرة: الآية 165.
وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُومِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُوتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ المائدة: الآية 54.
وقوله سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً﴾ مريم: الآية 96.
وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾ هود: الآية 90، ﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ﴾ البروج: الآية 14.
وقوله تعالى: ﴿ قُلِ اِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ آل عمران: الآية 31.
كما عدد القرآن الكريم أصناف الذين يحبهم الله لأخلاق حميدة اتصفوا بها كقوله تعالى: ﴿والله يحب المحسنين﴾، ﴿والله يحب الصابرين﴾، ﴿إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين﴾، ﴿إن الله يحب المتوكلين﴾، ﴿إن الله يحب المقسطين﴾…
وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ورد ذكر المحبة بما يبين عظمتها وأثرها على الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة، حيث تكسب المتحابين مكانة عالية بين الخلائق. ومن هذه الأحاديث نذكر من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن لله جلساءَ يومَ القيامةِ عن يمينِ العرشِ على منابرَ من نور، وجوهُهُم من نور، ليسوا بأنبياء ولا شهداء ولا صديقين. قيل يا رسول الله، من هم؟ قال: هم المتحابون بجلال الله تبارك وتعالى» (رواه الطبراني)
وعن أبي سعيد الخدري رضوان الله عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المتحابين في الله تعالى لتُرى غرفُهم في الجنة كالكوكب الطالع الشرقي أو الغربي. فيقال من هؤلاء؟ فيقال: هؤلاء المتحابون في الله عز وجل» (رواه الإمام أحمد برجال الصحاح).
3/ من مظاهر المحبة ومزاياها بالنسبة للفرد والمجتمع:
المحبة نقيض البغض والكراهية. والفرد بفطرته الأولى يحتاج إلى المحبة احتياجه إلى الماء والهواء. فحياة بلا محبة حياة جافة خالية من غذاء العاطفة الذي يخلق توازنا لشخصية الفرد منذ طفولته. انظر إلى المولود يصرخ صرخته الأولى بمجرد خروجه من رحم أمه وكأنه يعلن عن خوفه من ابتعاده عمن أحبته قبل رؤيته، وحنت عليه وهو في ثلاث ظلمات. وإن خرج من وحشة الظلام إلى نور الدنيا، فإنه يحتج بصراخه لعزله عن رحم المحبة، عن حضن المحبة وعن صدر المحبة الحقيقية. ويكبر هذا الطفل وتكبر معه شخصية الفرد الذي يُبنى المجتمع به. فإن هو تلقى تلقين المحبة في العلاقات المتشابكة داخل أسرته: بين أبيه وأمه، بينه وبين إخوته، بينهم جميعا وبين جيرانهم وبقية أفراد عائلتهم، سينقل هو بدوره هذه البذرة الطيبة لمحيطه ومجتمعه بين زملائه في الدراسة واللعب والعمل، وإلى بيت الزوجية مع زوجته وأبنائه. فهذه هي حياة الفرد بمراحلها المتعاقبة، إن نقصت محبة في ناحية من نواحيها، أثر ذلك على شخصيته، وسرى مفعول ذلك عليه وعلى المجتمع. هي معادلة واضحة: فرْدٌ تربى في المحبة فرْدٌ سليم لا يعرف الكره ولا البغض ولا الحقد. فردٌ مؤهل ليَبْنيَ لا أن يهدم، ليساعدَ الآخرين ويسعى بينهم بالخير والبر والإحسان. فردٌ يشكل لبنةً جميلةَ لبناء مجتمع جميل تسوده المحبة. وهو ما كان يُترجم إلى أمد قريب في المدن العتيقة من خلال الأعمال الجماعية في الأعراس والأعياد والمآتم وغيرها، حتى في وصلة الخبز تضعها ربَّةُ منزل ما، عند مدخل درب ما، يأخذها معه رجل أو شاب ما، إلى فران الحي. وكأنها وصلة أمه أو أخته أو أخت زوجته…
[1] – لسان العرب: ج 3 / ص 7 – 14 مادة حبب
[2] – الذريعة إلى مكارم الشريعة: ص256
[3] – منازل السائرين: ص 88
د. لطيفة الوزاني الطيبي