شكلت الكتابة عن طنجة، كفضاءات وكوجوه وكأساطير وكمحكيات وكرموز، موضوعا اثيرا لكل عشاق المدينة، سواء تعلق الأمر بأبنائها أم بزوارها. وظل الافتتان بعوالم طنجة العجيبة تعبيرا متجددا عن قوة السحر الذي مارسته المدينة في نفوس كل مريديها وعشاقها. وظلت الكتابات النوسطالجية الحالمة حول تفاصيل الواقع “الذي كان”، ملاذا مفضلا لكل المشتغلين على تفاصيل الذاكرة الجماعية للمدينة، بمكوناتها المادية القائمة وبشواهدها المنتصبة وبمحكياتها المسترسلة. لذلك، عرف المجال غزارة استثنائية وتضخما غير مسبوق، قد لا نجد مثيلا له بالنسبة لأي مدينة مغربية أخرى. وعلى أساس ذلك، تشكل “كتاب طنجة”، أو “سجل طنجة”، حاملا توقيعات لأسماء وازنة تشكل علامات فارقة في حقول المعرفة والفن والفكر والعلم والثقافة. فمن دي لاكروا إلى ماتيس، ومن جان جينيه إلى تينيسي ويليامز، ومن محمد سكيرج إلى عبد الله كنون، ومن الطاهر بن جلون إلى محمد شكري،… تتمدد اللائحة، لتصنع حبلا مترسلا من العطاء ومن الإبداع ومن التفكير الذي اتخذ من عوالم طنجة مجالا مفتوحا أمام رحابة فعل التأمل والاستقراء والافتتان، قبل أن يتحول إلى حقل لاستثمار خصوبة فعل التذكر أو للتكيف مع فعل التخييل، بنزوعاته الفردانية المثيرة، باعتبارها حجر الأساس في كل الكتابات الإبداعية المخلصة لصنعة الكتابة الأدبية الراشدة، بحمولاتها الإنسانية الواسعة وبأدواتها المخصوصة والمطبوعة بنزوات الذات وبتغيرات المحيط.
في سياق مسار هذا العطاء الإبداعي الرفيع، يندرج صدور كتاب “الجبل الكبير- ذاكرة طنجة المدينة المغربية”، للأستاذ أحمد بن الخياط السحتة، سنة 2019، وذلك في ما مجموعه 174 من الصفحات ذات الحجم الكبير. والكتاب، تعبير عن مستوى الافتتان الذي ظل يحمله المؤلف لمعشوقته مدينة طنجة، ولمنطقة “الجبل الكبير” بشكل خاص، باعتبارها واجهة عمرانية وبيئية وتاريخية اختزلت وجه مدينة طنجة الحضاري على امتداد العقود الزمنية الطويلة الماضية. ولعل هذه الميزة هي التي جعلت منطقة “الجبل الكبير” تسكن نفوس سكان الحي، بل وتتحول –معها- أجواؤه وفضاءاته إلى ملهم لهذه النفوس، على الرغم من تباعد الأزمنة، وعلى الرغم من اضطرار العديد من هؤلاء السكان لمغادرة الحي وللاستقرار بعيدا عنه. لقد حمل سكان الحي منطقة “الجبل الكبير” في قلوبهم، وتنقلوا بها في حلهم وفي ترحالهم. وفي كل مرة كانت تتاح لهم فرص الرجوع إلى الحي، كان إكسير السكينة يغمر النفوس من جديد، في شكل ولع أو عشق صوفي طافح، ليحقق لهم المتع اللامتناهية لجمالية عشق الأمكنة وفضاءاتها. وقد عبر مؤلف كتاب “الجبل الكبير” عن خصوبة هذه الروح المثيرة، عندما قال في كلمته التصديرية: “نزهة إلى الجبل الكبير عبر تضاريس الجغرافية والاطلاع على فترة من عهوده التاريخية، من حكايات، وأساطير، ومشاهدات فنية، ونظرات جمالية، ومخلوقات، من البشر والحيوان والنبات. إن جولة في الصباح أو في المساء إلى الجبل الكبير ولو مرة في الأسبوع، من شأنها أن تلطف الروح وتزيل التوتر والعياء. إنه فريد بهدوئه وعواصف الرياح بأشجاره وتساقط الأمطار. كل هذا أعطاه هيبة وشموخا، واختير بأن يكون مهدا للتفنن ومرتعا للتأمل والإلهام. وإذا كانت طنجة هي عروس الشمال، فإن الجبل الكبير هو رأس هذه العروس، ولا يخفى فإن التاج يوضع فوق الرؤوس، حيث الشعر والوجه والابتسام…”.
وعلى أساس هذا الافتتان، تنبثق السرديات المحتفية بقيم الجمال، لتعيد تشكيل الماضي والواقع في إطار كتابات استرجاعية تمارس أقصى درجات العشق للعناصر المشعة في الذاكرة الفردية وفي إسقاطاتها على الذاكرة الجماعية. لا يتعلق الأمر بكتابة تأريخية حدثية، ولا بكتابة توثيقية أكاديمية، ولا بتدوينات عالمة لفهم أسرار التغير في المحيط وفي الاهتمامات الفردية والجماعية، بقدر ما أنها كتابة انطباعية تسعى للاحتفاء بذاتها على طريقتها الخاصة، من خلال استدعاء قبسات تجربة المؤلف داخل رقعة جغرافية محددة، وفي زمن تاريخي محدد، وبين حضن مجتمع متجانس وعميق. ومن هذه الزاوية بالذات، تبدو كتابة الأستاذ أحمد الخياط السحتة، تعبيرا عن رغبة جماعية في تجميع شتات الذاكرة الجماعية الموزعة تفاصيلها بين الذوات، وهي التفاصيل المهددة بالزوال وبالاندثار بفعل عوادي الإنسان والزمن.
يمكن للبحث التاريخي المتخصص أن يستفيد من هذه التصانيف، ففي محكيات الأستاذ أحمد الخياط السحتة تنهض عوالم على عوالم، وتنتصب شخوص على شخوص، وتتدافع رموز على رموز، وتتلاقح أفكار على أفكار، ليصنع كل ذلك تجانسا ثريا بين مكونات الهوية الثقافية والحضارية لمنطقة “الجبل الكبير” ومعه مجموع فضاءات مدينة طنجة. لقد استطاع المؤلف الكتابة عن تفاصيل لا يمكن التوثيق لها في سياق الكتابات التأريخية التخصصية، مقدما جزئيات نادرة عن أشكال تفاعل الذات مع محيطها، ثم تأثيرها في هذا المحيط وفي رسم معالمه المميزة، بشريا وطبيعيا وثقافيا. في هذا الإطار، تحضر فضاءات ووجوه بشكل انسيابي يحررها من صرامة التوثيق العلمي، لتعطي للذات فرصها اللامحدودة أمام فعل الاستذكار والتحيين، مثلما هو الحال مع عوالم “جامع المقراع”، و”غرسة ديبوا”، و”مقبرة سيدي عمار”، و”مغارة هرقل”، و”حجرة جمجم”، و”خندق موش”، و”حجرة الغراب”، و”لمريسة”، و”عين اللويز”،… أو مع شخصيات مثل “مولاي لحسن”، و”الحاج بهوت”، و”سيدي ما عطا الله”، و”عبد السلام طودو”، و”الفقيه المصري”، و”الحاج المريكانو”، و”الفقيه اسطيطو”،…
حكايات على حكايات، ومرويات على مرويات، وأساطير على أساطير، وقبل كل ذلك، شهادات على شهادات، تعطي لكتاب أحمد بن الخياط السحتة عناصر عفويته ومتعة تلقائيته التي تنتج الكثير من مواد الإثارة التي تشكل مدخلا لابد منه لكل محاولات تجميع المادة الخام الضرورية لكتابة التاريخ المحلي، في أفق تطويع المرويات الشفاهية باعتبارها مكونا رئيسيا من مكونات هذه المادة الخام.
أسامة الزكاري