استرعت سيرة زعيم الحركة الوطنية بشمال المغرب الأستاذ عبد الخالق الطريس، اهتمام كل المشتغلين بالبحث في تاريخ النضال الوطني ضد الاستعمار، وكذا شغف جل النخب السياسية لمغرب ما بعد الاستقلال، ليس فقط لأن الباحثين النزهاء والمناضلين المخلصين ظلوا حريصين على تبجيل هذه السيرة، ولكن –كذلك- لأن الرجل ترك بصماته الخالدة على أداء النخب الفاعلة بمنطقة الشمال على امتداد العقود الطويلة للقرن 20. فالطريس هو الابن البار لمدينة تطوان، والتلميذ الوفي لتراث الشموخ والإباء الذي أفرزته تربة شمال المغرب، كما أنه المجاهد الصلب الذي لم يكن يخشى في الحق لومة لائم، والمناضل الوطني المستعد دائما للعطاء بدون حدود وللتضحية بدون أي مقابل نفعي مادي أو رمزي. إنه منارة للعطاء الخصب الذي عكس أصالة الانتماء وعمق الإيمان وثبات المواقف. فسواء خلال مرحلة الاستعمار، أم خلال مرحلة ما بعد حصول بلادنا على استقلالها السياسي، ظل الزعيم الطريس أبا لأجيال مديدة من النخب السياسية والثقافية والإعلامية التي طبعت بحضورها الوازن المشهد الوطني التحرري لمغرب القرن 20. وحتى بعد وفاته، ظل تراث الطريس نبراسا لاستلهام كل قيم الطهرانية السياسية في التفكير وفي المبادرة وفي الفعل. ومهما قلنا في حق الرجل، فالمؤكد أننا لن نعطيه حقه كاملا، خاصة وأن مجال الاشتغال الذي اشتهرت به هذه الشخصية يظل من التشعب ومن التعدد بحيث يصعب حصره ورسم أبعاده. فمن ساحة النضال السياسي والتعبوي المقارع لأطروحات الاستعمار ولمشاريعه الاستيطانية والاستيلابية، ومرورا بالمجهود الإعلامي الهادف إلى ترسيخ خط صحافي وطني متحرر كما عكسته صحف “الحياة”، “الحرية”، “الأمة”،… وتركيزا للبعد التربوي والتعليمي داخل مؤسسات رائدة وإطارات جمعوية متميزة مثلما هو الحال مع العمل المؤسس “انتصار الحق بالباطل”، ووصولا إلى العمل الاجتماعي الميداني المباشر بين صفوف الناس وبين فضاءاتهم الحميمية، تشكلت التركيبة المتكاملة لشخصية الطريس راسمة معالم تجربة إنسانية خالدة قلما يجود الزمان بمثلها.
وحسنا فعلت “جمعية الطالب المغربية” عندما التفتت لتخليد ذكرى مؤسسها بإصدار كتاب توثيقي شامل تحت عنوان “الطريس.. صور من حياته”، وذلك سنة 1970، في ما مجموعه 95 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، كعربون وفاء وإخلاص لذكرى السيرة العطرة لرجل خدم شمال المغرب حيا بنضاله الصلب، وخدمه ميتا بأصالة تراثه الخالد الذي لازال ينتظر جهود الباحثين لنفض غبار النسيان عن أهم مكوناته. وتزداد هذه المسألة إلحاحا، إذا علمنا أن الجيل الحالي لا يعرف إلا القليل عن مضامين هذا التراث وعن قيمه الإنسانية المختلفة، إلى جانب أن البحث الجامعي لازال بعيدا عن الوفاء لمستلزمات التوثيق الأكاديمي الكفيل بتغطية الموضوع من جميع جوانبه. فكم عدد الرسائل الجامعية والأطروحات الوطنية التي أنجزت في هذا الصدد؟ وكم عدد الإصدارات التي نزلت إلى الأسواق وتناولت تجربة الطريس بالدراسة وبالتوثيق؟ وكم عدد الندوات التي انعقدت بهذا الخصوص؟ وبغض النظر عن الجانب الكمي لهذه التساؤلات، وإذا استثنينا أعمالا رائدة لثلة من الباحثين المعاصرين من أمثال المرحوم محمد بن عزوز حكيم والأستاذ عبد المجيد بن جلون، فالمؤكد أن مجال الدراسة لا يزال بكرا ولايزال ينتظر جهود الباحثين المتخصصين لاستكشاف ظلماته، تجميعا للوثائق وتصنيفا للمعطيات وتحليلا للوقائع واستخلاصا للنتائج واستغلالا للخلاصات الكبرى.
ولعل من الحوافز الكبرى التي تحفزننا جميعا على إيلاء هذا الموضوع كل ما يستحقه من عناية واهتمام، إدراكنا العميق لخطورة الظلم الكبير الذي لحق تراث الحركة الوطنية بالشمال، وتراث الزعيم الطريس بشكل خاص، داخل الأدبيات والمصنفات المدونة التي ادعت التأريخ لمسارات النضال السياسي ضد الاستعمار. فالكثير من الافتراءات ألصقت بالتراث المذكور، والكثير من الإسقاطات أضحت حقائق مطلقة في نظر أصحابها، والكثير من الأحكام الجاهزة تحولت إلى منطلقات للبحث، والكثير من أشكال تصفية الحسابات الضيقة أو الذاتية أصبحت نقاطا ارتكازية في موجة المذكرات الشخصية ل”رواد” الحركة الوطنية ببلادنا. لقد أساءت الكثير من الكتابات الصادرة خلال العقود الماضية للعمل المتميز الذي راكمته الحركة الوطنية بالشمال، وبشكل خاص لمسار حزب الإصلاح الوطني ولمؤسسه الأستاذ عبد الخالق الطريس، مساهمة في تكريس قيم الزيف والتدليس، معتقدة أن التمويه على السجل الوطني لمنطقة الشمال يمكن أن يصنع الزعامات وأن يكرس مركزية الفعل والمبادرة الجهاديين ضد مشاريع الاستعمار. ومن عجائب الأمور في هذا الباب، تخصيص بعض الكتابات لأجزاء وافية من أعمالها للحديث عن الحركة الوطنية بالمنطقة السلطانية متناسية –لأسباب لا يعلمها إلا أصحابها- كل هذا التراث النضالي الزاخر الذي صنع عبقرية النضال السياسي بمنطقة الشمال خلال النصف الأول من القرن 20. وتزداد هذه المسألة خطورة، إذا علمنا أن هذا التجاهل لم ينحصر على الكتابات المعاصرة، بل يعود –كذلك- إلى كتابات أسماء وازنة كان لها قصب السبق في التأصيل للأنوية الأولى للحركة الوطنية بالمنطقة السلطانية، وخاصة داخل حزب الاستقلال وداخل حزب الشورى والاستقلال…
واعتبارا لكل هذه الحيثيات، أصبح من اللازم أن تتوجه الطاقات لإعادة الأمور إلى نصابها، خدمة للحقيقة وللذاكرة الجماعية لمنطقة الشمال أولا وأخيرا. وصدور كتاب “الطريس: صور من حياته” يندرج في هذا السياق، إذ يساهم في الكشف عن الكثير من جوانب السيرة المجيدة للفقيد عبد الخالق الطريس، استنادا إلى رصيد هام من الصور الفوتوغرافية التي تؤرخ لمختلف المحطات التي تقلبت عبرها هذه السيرة. فباستثناء التقديم العام الذي احتوى على تعريف بالمعالم الكبرى لسيرة الطريس بشكل مركز ومختزل، فإن المادة الأساسية للكتاب قد تجاوزت نزوعات المصنفات المكتوبة، لتقدم صورا تم انتقاؤها بعناية فائقة من أجل استنطاقها وتحويلها إلى شهادات حية على ذاكرة الرجل، منذ ميلاده سنة 1910 وإلى حين وفاته سنة 1970، مرورا بكل الإسهامات الكبرى التي قدمها في مجال العمل الوطني والتربوي والثقافي والاجتماعي والسياسي. والحقيقة، إن مجموع هذه الصور هي أبلغ من كل كلام يمكن أن يقال في هذا المقام، وهي خير رد على كل الافتراءات التي حاول البعض إلحاقها بالرجل، وعلى كل محاولات الانتقاص من القيمة الرمزية لتراث الحركة الوطنية بمنطقة الشمال.
وحتى ننهي هذا التقديم، نشير إلى أن “جمعية الطالب المغربية” قد ربحت رهان الاهتمام بالتوثيق البصري لسيرة عبد الخالق الطريس، كدليل على الوفاء لذكرى مؤسسها، مؤطرة هذه المبادرة بكلمة مقتضبة اختزلت كل معاني الوفاء والإخلاص. ومما جاء في هذه الكلمة، نقرأ في الصفحة رقم 20 ما يلي: “هكذا واصل الأستاذ الطريس كفاحه حتى وافاه الأجل المحتوم في مدينة طنجة يوم الأربعاء… 17 ماي 1970، فنقل جثمانه الطاهر إلى مسقط رأسه حيث شيع بعد عصر اليوم التالي إلى مرقده الأخير في محفل رهيب شاركت فيه عشرات الآلاف من محبيه من مختلف أنحاء المغرب ومن الخارج… نعم كان الطريس كاتبا لامعا، وخطيبا شعبيا عظيما، وصحافيا محنكا قديرا، سطر بمقاله السيال مآت المقالات… وألهب المشاعر بمآت الخطب في سائر جهات المغرب وبالخارج، وألقى عشرات المحاضرات في شتى المواضيع وبمختلف المناسبات. وكان يتوفر على ثقافة واسعة، ذا فكر سديد ورأي متزن وشجاعة نادرة، مما بوأه الزعامة وقيادة الحركة التحريرية في البلاد…”.
أسامة الزكاري